إعداد : الصاحب الحلبيلقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء هذا الدين للبشرية؛ وانتكست البشرية بجملتها إلى الجاهلية وعاد هذا القرآن يواجه البشرية كما واجهها أول مرة، يستهدف منها نفس ما استهدفه في المرة الأولى من إدخالها في الإسلام ابتداء من ناحية العقيدة والتصور. ثم إدخالها في دين الله بعد ذلك من ناحية النظام والواقع.وعاد حامل هذا الكتاب يواجه الحرج الذي كان يواجهه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يواجه البشرية الغارقة في مستنقع الجاهلية، المستنيمة للمستنقع الآسن، الضالة في تيه الجاهلية، المستسلمة لاستهواء الشيطان في التيه!وهو يستهدف ابتداء إنشاء عقيدة وتصور في قلوب الناس وعقولهم تقوم على قاعدة: أشهد أن لا إله إلا الله. وإنشاء واقع في الأرض آخر يعبد فيه الله وحده، ولا يعبد معه سواه. وتحقيق ميلاد للإنسان جديد. يتحرر فيه الإنسان من عبادة العبيد، ومن عبادة هواه!إنه حين تكون الحاكمية العليا لله وحده في مجتمع، تكون هذه هي الصورة الوحيدة التي يتحرر فيها البشر تحرراً حقيقياً كاملاً من العبودية للهوى البشري ومن العبودية للعبيد. وتكون هذه هي الصورة الوحيدة للإسلام أو للحضارة، كما هي في ميزان الله، لأن الحضارة التي يريدها الله للناس تقوم على قاعدة أساسية من الكرامة والتحرر لكل فرد. ولا كرامة ولا تحرر مع العبودية لعبد… لا كرامة ولا تحرر في مجتمع بعضه أرباب يشرعون ويزاولون حق الحاكمية العليا؛ وبعضهم عبيد يخضعون ويتبعون هؤلاء الأرباب!والتشريع لا ينحصر في الأحكام القانونية. فالقيم والموازين والأخلاق والتقاليد.. كلها تشريع يخضع الأفراد لضغطه شاعرين أو غير شاعرين! ومجتمع هذه صفته هو مجتمع رجعي متخلف…وحين تكون آصرة التجمع في مجتمع هي العقيدة والتصور والفكر ومنهج الحياة. ويكون هذا كله صادراً من الله، لا من هوى فرد، ولا من إرادة عبد. فإن هذا المجتمع يكون مجتمعاً متحضراً متقدماً؛ لأن التجمع حينئذ يكون ممثلاً لأعلى ما في «الإنسان» من خصائص، خصائص الروح والفكر.وأما حين تكون آصرة التجمع هي الجنس واللون والقوم والأرض.. وما إلى ذلك من الروابط.. فإنه يكون مجتمعاً رجعياً متخلفاً…ذلك أن الجنس واللون والقوم والأرض وما إلى ذلك من الروابط لا تمثل الحقيقة العليا في «الإنسان». فالإنسان يبقى إنساناً بعد الجنس واللون والقوم والأرض. ولكنه لا يبقى إنساناً بعد الروح والفكر!ثم هو يملك بإرادته الإنسانية الحرة، وهي أسمى ما أكرمه الله به، أن يغير عقيدته وتصوره وفكره ومنهج حياته من ضلال إلى هدى عن طريق الإدراك والفهم والاقتناع والاتجاه. ولكنه لا يملك أبداً أن يغير جنسه، ولا لونه، ولا قومه. لا يملك أن يحدد سلفاً مولده في جنس ولا لون؛ كما لا يمكنه أن يحدد سلفا مولده في قوم أو أرض.وحين تكون «إنسانية الإنسان» هي القيمة العليا في مجتمع؛ وتكون «الخصائص الإنسانية» فيه موضع التكريم والرعاية، يكون هذا المجتمع متحضراً متقدماً.وأما حين تكون «المادة» في أية صورة من صورها، هي القيمة العليا، التي تهدر في سبيلها كل القيم والخصائص الإنسانية، وفي أولها القيم الأخلاقية، فإن هذا المجتمع يكون مجتمعاً رجعياً متخلفاً..إن المجتمعات البشرية اليوم، مجتمعات «متخلفة» أو «رجعية»! بمعنى أنها «رجعت» إلى الجاهلية، بعد أَن أخذ الإسلام بيدها فاستنقذها منها. والإسلام اليوم مدعو لاستنقاذها من التخلف والرجعية، وقيادتها في طريق التقدم و «الحضارة» بقيمها وموازينها الربانية.