جاد الغيث |
الساعة الحادية عشر ليلاً، البرد شديد في ليلة 10 كانون الثاني 2018 م، مدينة (جسر الشغور) تعوم في قلب أضواء خافتة، بينما تعوم السيدة فاطمة في آلام مخاضها، لقد حان موعد ولادتها الأولى، فمنذ عشر سنوات وهي تنتظر ولادة حلمها بأن تكون أمًّا، عشر سنوات من الصبر والدعاء وزيارة الأطباء، لم تشعر يوماً باليأس، ولم يتوقف لسانها عن الدعاء بولد صالح، حتى شاء الله وصار الحلم حقيقة، وربما في أقل من ساعتين أو ثلاث ساعات على الأكثر ستضم فاطمة ابنها إلى حضنها، وسيرقص الأب فرحًا بحلمه حين يحمل مولوده بين ذراعيه ويناديه من حوله: مبارك يا (أبو أيمن )
هذه المرة لم تكن سيارة الإسعافْ كعادتِها خلالَ سنواتِ الثّورة تحملُ الجرحى وتغص برائحة الدماء؛ لكنها تحمل أبًا وأمًا وحلمًا على وشك الولادة.
الأب يُمسكُ يدَ زوجتَه الّتي تعاني آلامَ المخاضِ؛ لسانه لا يتوقف عن ذكر الله، وفي خياله يمر شريط لصور المستقبل، إنه يرى ولَدَه المنتظرَ يكبرُ أمامَهُ، يحبو ويملأ البيتَ لهوًا ومرحًا جميلاً، يراهُ في يومِهِ الأوّلِ في المدرسةِ يحملُ حقيبته ويمضي، يراه بعد صلاة العصر يحفظ مع رفاقه في المسجد، سورًا من القرآن!
فجأةً وعلى صوت القبضة يصحو الأبُ من لذّةِ حلم اليقظة الجميل:
(حربي روسي في الأجواء، يا شباب حربي روسي دخل المنطقة، انتباه يا شباب انتباه، حربي روسي في مرحلةِ التنفيذ، نفّذ.. نفّذ. نفّذ يا شباب.. يارب سلم.. يارب سلم)
لقد استهدفَ الصاروخ الطريق الرئيس إلى المشفى، انقلبت سيارة الإسعاف، فهرعتْ سيارة إسعاف أخرى للمكان؛ الحلم يكاد يموت، الأم والأب في حالة إغماء، المُسعفُ يجس نبض فاطمة: (يا شباب ساعدوني، المرة عايشة، رايحة تولد.. يا شباب..)!!
تم إسعاف الزوجة إلى أقرب مشفى والدم الغزير يغطها، لم يعرف المسعفونَ ماذا يقولون عند وصولهم إلى البوّابةِ، صاحَ أحدهم: (إسعاف… إسعاف…) صاحَ الآخرُ: (ولادة.. ولادة… حالةُ ولادة..)
في غُرفةِ الولادة كان وجه الأم مغطى بالدم وهي تئن من شدة آلامها، تحول أنينها إلى صيحات عالية، مرة تصيح من ألم مخاضها، وصيحة أخرى من ألمِ الإصابة؛ تُنادي على زوجِها بكل ما فيها من حياة، اسمُه لا يفارقُ لسانها؛ وحرارةُ يدِه ما تزالُ في يدِها؛ بعد عشرة دقائق يعلو صوت المولود باكيًا، تفرح الطبيبةُ كأن الصبي ابنها: (صبي.. صبي…ما شاء الله متل القمر..)
الأمّ تصيحُ بقوّةٍ: (وينو زوجي؛ بشروه بالصبي، بشروه كرمال النبي …) سيارة إسعاف أخرى كانت قد نقلت الأب إلى مشفى آخر، المسعف الذي رافقه كان يسمعه يتمتم طوال الطريق بكلمات وكأنه يوصي بابنه: (وين ابني …وين مرتي …ديروا بالكم على ابني …) وقبل أن يصل الأب إلى المشفى لفظ أنفاسه الأخيرة وربما في ذات اللحظة التي التقط فيها ابنه أنفاسه الأولى!!
استشهد الأب قبل أن يرى (أيمن) ابنه الذي حلم به عشر سنوات تامات، استشهد بشظية اخترقت صدره، شظية غادرة من صاروخ روسي أنهى حياة العشرات وأنهى حلم أبوة لم تبصر النور، استشهد الأب دون أن يتمكن من النظر ولو لمرة واحدة لوجه ابنه الذي بدا كالقمر ليلة البدر!!
ملايين الشظايا على مدار تسع سنوات مضت اخترقت أجساد بريئة، وبيوت آمنة وخلفت وراءها جروحًا نازفة لا تعد ولا تحصى، ومايزال مئات الآلاف من السوريين المصابين صامدين في وجه طائرات الحرب الروسية التي تبغي إخماد نور الحياة في صدورهم، ويأبى الله إلا أن يتم نوره.