في إحدى الجلسات النقاشية التي عقدت مؤخراً، عرّف الدكتور لؤي صافي الثقافة على أنها حالة حركية سلوكية، لا تتمثل باختزال بُعد معرفي ساكن في وعي مجتمع ما، إنما يُعّبر عنها في سلوكيات هذا المجتمع وأخلاقياته العامة، وقيمه الحاكمة.
لقد تمّ التعامل مع الثقافة في العقود الأخيرة على أنها حالة ساكنة، حالة أدبية تختزل الموروث الحضاري والمعرفي وتحاول تفسير الهوية في بعدها النخبوي، وظهر المثقف كإنسان بعيد عن مجتمعه بمعطف مهترئ وجريدة وبعض الكتب في يده للدلالة على الاستغراق الفكري الذي يسكن زاوية مهجورة في المقاهي ويتكلم بلغة لا يفهمها الناس ويستخدم مصطلحات فلسفية معقدة، ويقرأ شيئًا من الشعر الإنكليزي ويشرب قهوة إيطالية وشايًا بلدية عتيقة ليمازج في كينونته شخصية عالمية كما يدعي.
ظهر المثقف كصوفي في العصور الوسطى، يحاول أن يسقط على نفسه هالات من القداسة ويدعي أن له طريقة في الحياة من الصعب إدراكها للبسطاء، ذلك أن عالم الخواص (المثقفين) غير متاح للعامة.
هذه الصورة جعلت التعامل مع الحالة الثقافية والمثقفين كمعطلين لأي حركية أو نهضة أو تغيير يقوم به المجتمع، لأنهم غارقين في أمكنة لا تشبه المجتمع ومتعالية عليه، وتتهمه دائماً بالقصور تجاهها.
وصار طرح تغيير الثقافة كأساس لتغيير المجتمع طرحاً يثير السخرية، فالأدوات الساكنة التي سيطرت على الثقافة جعلتها غير قادرة على التحرك في محيطها الاجتماعي، وجعلت من المثقف حالة كاريكاتورية تثير الشفقة والضحك، ولم يتم تفسير السلوكيات الاجتماعية على أنها حالة ثقافية بقدر ما تم تفسيرها من خلال الجانب الأخلاقي، المحكوم بأدوات الإنتاج، وضغوطات الأنظمة السياسية.
وراح الحل تجاه التغيير يعتمد على طرح أدوات الممارسة والمشروعات التنفيذية التي تعتمد على بناء المهارات وتعطيل العجلات القديمة وتدوير عجلات جديدة، بانفصال تام عن السياق المعرفي الثقافي الذي يربط هذه العجلات والمهارات ببعدها الحضاري القادر على الإنتاج والابتكار، لتصبح مجرد تطبيقات تشغيلية، قادرة على تكديس المنتجات بدون فائدة، في صورة مشوهة عن الثورة الصناعية دون تلبية احتياجات السوق.
اختفت هنا القدرة على صناعة النهضة والتغيير لصالح بناء مهارات تشغيلية قادرة فقط على تشغيل المسارات الإنتاجية المتاحة أو المستوردة.
إن العمل على إعادة بناء الثقافة في بعدها السلوكي ربما يمثل إحدى أهم محركات التغيير والنهضة القادر على توليد القيم اللازمة للنجاح والاستمرارية، وهو عمل يقع العبء الأكبر فيه على المثقف باعتباره الذي يحفظ سجلات السلوك الحضاري ويعمل على تغييرها وتطويرها بما يلائم فهمه لواقعه المتجدد والمتغير، وليس الانزواء بهذه السلوكيات بعيداً عن مجتمعه ليبقى المجتمع غارقاُ في الماضي أو يعيش في غربة مستوردة.
المدير العام | أحمد وديع العبسي