نيرمين خليفة – الرسالة الأولى |
عزيزي يا صاحب الظل الطويل ..
تنتابني هذه الأيام رغبة جامحة في الكتابة لك، والبوح بكل ما أخفيه، بصراحة لا أخفي شيئًا لكنني أنا من أجهل ما يحدث داخل ذاتي، فكرت أن ألجأ إلى معالج نفسي يساعدني في كشف اللثام عن تلك الأمواج المتلاطمة في جوفي، لكن عدلت عن هذه الفكرة، ليس هناك أفضل من أن أحدثك أنت.
ربما ما أحتاجه التفريغ النفسيّ فقط، بمعنى أن أحدثك عمَّا يدور في ذاتي المضطربة، لأعلم خباياها وأعود فأتقبل نفسي في مرحلة تالية، تقبلاً غير ممهورٍ بشرط.
عزيزي .. حيث أعيشُ الآن هناك الكثير من المتناقضات، حيث روحي تنطلق جامحة في فضاء الطموح لا مبالية بكل الألغام المزروعة، وفي الوقت نفسه تكبلني القيود المجتمعية كفرس عربية سقطت في حفرة لا قرار لها ولا يمكن ترويضها إلا فيها.
هل أنا مضطربة؟ ربما تتساءل، نعم أعترف لك أنني أعاني الاضطراب النفسي، ربما هو تصادم مفهومي المرتفع عن ذاتي مع خبرات واقعي المقيد والحزين.
هنا في سورية لا شيء سوى الحزن والموت والفقدان، هنا حيث يبتر طرف من أطراف أحلامي كل يوم لأغدو شجيرة منزلية رتيبة مقيتة ومقيدة.
سأخبرك معلومةً مهمة: يقول الطبيب الأميركي (كارل روجرز) رائد الاتجاه الإنساني في علم النفس: “إن التعاطف والتقبل والتقدير الإيجابي غير المشروط هي الأسس الأهم في أي علاقة إنسانية ناجحة”، فكيف لي بعلاقة ناجحة مع ذاتي وأنا ما أنفك أمارس حيل الصبر والتجلد معها لأنهار على ورقة بيضاء أمام ظلك؟! وكيف لسوريٍّ منبوذ بعلاقة إنسانية تقوم على الاحترام الإنساني وهو يُرمى على قارعة الحلول الفاشلة طوال ثمان سنوات يتشتتُ في مراكز الإسكان الجماعي محرومًا من أدنى حقوقه ومرغمًا على شراء بضعة حياة بكل تاريخه وبيته وذكرياته، لينهار أمام من يدّعون الإنسانية؟!
آوه .. جيفرس، أنا أعرفك الآن جيداً أكثر ممَّا تعرفني أنت، ربما أكتب لك لأحصد بعض التعاطف، أتصدق هذا؟! صار التعاطف بالنسبة إلينا شيئًا نادرًا نبحث عنه.
الإنسان بات هنا في هذا المكان الذي يطلقون عليه اسم وطن بلا قلب، نعم بلا قلب بكل معنى الكلمة، يمكنك أن تتخيل هذا بهدوء، أنا بلا قلب إذ أكتب لك الآن بكل برود، وهناك تحت الشرفة سيارة مفخخة قطعت أشلاء بعض الأطفال، بالإضافة إلى زوج وزوجة حديثي الارتباط، لا يعلم إلا الله كم قاتلا حتى يُنسفان بهذه الطريقة، وفي اللحظة نفسها يسير موكب زواج آخر مطلقاً العنان لكل أفراحه، لأقطف أنا الياسمين وأضعه بين خصلات شعري، وأتغنى ببعض أشعار نزار قباني متجاهلة رائحة البارود التي تختنق بعطر الحب المتفحم.
أترى كم صرت بدون مشاعر يا عزيزي؟! وكم أصبحت عاجزة عن إقامة أي علاقة فيما عدا الحديث مع الظلال؟!
أتعلم؟! ربما هذه هي الحالة الصحية لكل من عاش مأساتنا نحن السوريين أن يتحدث مع الظلال فقط، وأن يجالس الليل ويشتم القمر، لأن نوره الصاخب يكشف لنا جراحاتنا التي نحاول ألّا نراها.
من غير الطبيعي هنا أن يُمارس السوري حياةً عادية، أن ينام مثلاً كباقي البشر نومًا لا تتخلله هلوسات الموت والرعب وكوابيس الاعتقال، ويستيقظ بشكل عادي على إشراقة شمس النهار، لا أزيز للرصاص ولا أخبار عن شهداء جدد، يذهب إلى عمله ويأتي منه ويشكو الروتين الذي يستنزف شبابه، لا يفكر بالشظايا التي يمكن أن تقطع طريقه وتحوله إلى أشلاء وتسيح دماؤه على أرصفة القهر التي لا يمكن تحريكها، يُحدث الظلال كما أفعل أنا الآن، لأنها من يستطيع فهمه فحسب، فلا حياة لمن تنادي من بني البشر.
عزيزي يا صاحب الظل الطويل ..
أعرف أنك ضجرت من طول رسالتي المليئة بالأوجاع، لكن أتعرف يا عزيزي؟ نحن شعبٌ جبار بكل المقاييس؛ مازلنا نملك القدرة على الابتسام وتوزيع المرح على طول خط القهر الممتد منذ ثمان سنين وحتى الآن، لدينا إمكانات هائلة على محاولة الأحلام والسعي على دربها، نرى اللمحات الإيجابية في كل ما عشناه ونعيشه حتى الآن؛ نستشرف فكرًا يتبلور لمستقبلنا، ويقظة ترنو نهضة في الأفق، مشاريع خلاقة منها ما ينجح ومنها ما ينتظر، مبادرات إبداعية لا تعرف الكلل ولا الملل، نسابق الأحزان ونحاول مستقبلاً نراه كما نأملهُ بلا يأس أو قنوط، وأنا شخصيًّا رغم الجنون الذي أعيشه أنطلق كل صباح بعد سهرٍ ليل طويل أُحدث ظلك ونفسي “اقترب الحلم فاثبتي يا فتاة”
3 تعليقات
يزن الحلبي
ما شاء الله حس عالي بالكتابة
يعني لو ماجابت سيرة الحرب والقصف حسيت عم اقرأ برواية
Pingback: الرسائل التي لم تكتبها جودي آبوت لصاحب الظل الطويل (عن الثورة والحرية) | صحيفة حبر
Pingback: الرسائل التي لم تكتبها جودي آبوت لصاحب الظل الطويل (عن الثورة والحرية) | صحيفة حبر