في زمان عاصف وسريع التغير كزماننا تشعر المجتمعات بحاجة ماسَّة إلى من يخبرها عن حقيقة ما يجري، ويرشدها إلى التصرف والموقف المناسبين له، وأعتقد أن الراسخين في العلم والفكر والثقافة هم المرشَّحون للقيام بذلك. إن المعرفة تمنح أصحابها سلطة ودرجة من الريادة الاجتماعية، والثمن الذي يجب أن يدفعه من يصبح رائداً هو حمل هموم الناس، ومساعدتهم على حل مشكلاتهم، لكن السلطة التي يملكها المثقف تشكل تحدياً كبيراً له، لأنها تغريه باستغلالها لتحقيق مصالح شخصية على حساب المصلحة العليا للأمة، ولهذا فإننا نجد في كل مجتمعات الأرض حديثاً مريراً عن أزمة المثقفين وعن خيانتهم لأممهم، ولعلي أسلِّط الضوء على ما أعتقد أنه مسؤولية المثقف عبر السطور الآتية:
1ـ المثقفون ليسوا مسؤولين عن حماية الثقافة فحسب ، بل إن مسؤوليتهم تتسع لتشمل هداية شعوبهم وصون مصالح بلادهم، ومن المؤسف جداً أن الذين يشعرون بهذه المسؤولية في صفوف المثقفين هم دائماً قلة، حيث نجد الأكثرية منشغلين بالتعلم، والتعليم، والقراءة، والكتابة من غير إدراك لطبيعة الدور العملي الذي يمكن أن تؤديه الثقافة في نهضة الأمة، ولهذا فإن من الواضح أن المثقفين كثيرون لكن الذين يقومون منهم بمهمات المصلحين قليلون جداً، وذلك بسبب غياب الوظيفة النهائية للثقافة عن الوعي، وبسبب الانشغال بكثير من التفاصيل الصغيرة، مما لا يغني ولا يسمن من جوع !. وقد صدق من قال إن كثيراً من المثقفين يغرقون في شبر من ماء! إنه لا يعادل عظمة المعرفة الواسعة والمتماسكة شيء سوى الوعي بتوظيف تلك المعرفة في إصلاح شؤون الدين والدنيا.
2ـ لا يخفى أن كثيراً من الناس مرتبكون في التعامل مع الظروف الجديدة، ومرتبكون في تربية أبنائهم، كما أنهم مرتبكون في ترتيب أولوياتهم وإجراء الموازنات بين الديني والدنيوي والعاجل والآجل والروحي والمادي والشخصي والعام … وهم ينتظرون من مثقفيهم المساعدة في كل هذا المثقف يستطيع القيام بكل ذلك، إذا نزل من برجه العاجي، وعرف على نحو جيد عمق معاناة الناس من حوله، فالثقافة هي المنظار الذي نرى منه كل المشكلات، وإن المثقف هو الذي يملك ذلك المنظار.
ولا شك أن المثقف يحتاج إلى شيء آخر في هذا الشأن وهو الإخلاص للرسالة التي ندب نفسه لها، حيث إن هناك الكثير من القوى الفاسدة والغاشمة التي تعتاش على آلام الناس، وتلك القوى تملك ذهب المعز وسيفه، وقد أثبتت على مدار التاريخ أنها قادرة على شراء فريق من المثقفين وقادرة على قهر فريق ثان وتهميش فريق ثالث، وبما أنه يمكن لنا أن نعبر عن الحقيقة بألف أسلوب، فإن في إمكان كثير من الكتِّاب والمثقفين المتاجرة بمعاناة الناس بألف طريقة، ومن هنا فإن من جملة مهام المثقفين الأحرار إصلاح ما أفسده بعض زملائهم من تصورات، وما شوهوه من إدراك الجماهير.
3ـ تتطلب الريادة الاجتماعية من المثقف الحفاظ على الهوية الوطنية وصقلها ونشر الوعي بها، ويتأكد هذا المطلب اليوم بسبب ما نراه من كثافة الوافدات الثقافية الأجنبية والغزو الأخلاقي الناعم، وأعتقد أن الالتزام بالإسلام عقيدة وشريعة وسلوكاً هو ما يمنح الخصوصية للمجتمعات الإسلامية، والبديل عنه لن يكون سوى رؤى مختلطة ومشوشة وسوى نزوع إلى (القُطرية) وأدبياتها الضيقة وغير الجذابة.
هذه المهمة تتطلب من المثقف درجة حسنة من الفهم لروح الشريعة الغراء ومقاصدها ورؤيتها في إصلاح العباد والبلاد.
4ـ لا يستطيع المثقف أداء حقوق الريادة من غير تحليل عميق للواقع، والكشف عما فيه من فرص وإمكانات وتحديات… مع الحرص على إرشاد الناس إلى كيفية التعامل مع كل ذلك. إن النقد الاجتماعي هو الذي يرتقي بالعالم إلى درجة مفكر، وإن من مهمات المفكرين تمليك الناس رؤية واضحة للمستقبل الذي عليهم أن يعملوا من أجله، وأعتقد أن ذلك يتطلب نوعاً من الثقة بالجماهير وقدرتها على صنع التغيير، ومن الواضح أن ما جرى ويجري في العديد من البلدان العربية يؤكد جدارة المواطن العربي بتلك الثقة.
لن يتحقق أي شيء مما أشرنا إليه ما لم يتخلص المثقف من النزعة العدمية ومن التشاؤم الذي صبغ طروحات كثير من المثقفين حتى قال أحدهم: إن المثقف هو الكائن الوحيد الذي وُلد باكياً، ويظل مدى حياته شاكياً!.
دائماً هناك فرصة لعمل شيء أفضل، وعلينا اكتشاف تلك الفرصة ونشر الوعي بها.