مريم إبراهيم |
تأمل (أم أحمد) لو أن الزمن يعود قليلاً إلى الوراء، كي لا تسمح لزوجها وأبنائها بالذهاب إلى الريف الجنوبي، بعد وفاتهم بالقصف الأخير الذي طال بلدتهم (معرة حرمه).
(أم احمد40عامًا)من ريف إدلب الجنوبي لبلدة معرة حرمة، نازحة في بلدة الفوعة، تروي قصتها فتقول: “أخبرني أبو أحمد أن عليه الذهاب إلى البلدة لقطاف موسم الزيتون، فبعد أن تهجرنا لم يعد لدينا عمل نعتاش منه، فبيتنا وكل ما نملك هدم بالقصف، وهنا لا يوجد عمل متوفر للجميع، وعليه أن يذهب لقطاف الزيتون كي نستطيع شراء ما يلزمنا، فالشتاء على الأبواب، قلتُ له: أبو أحمد لا تذهب القصف عنيف جدًا على البلدة، ولكن قدر الله ما شاء الله فعل، كان لابد من ذهابه هو وأبنائي، فقدر الله لا يبدل، كتب عليهم الموت ببلدتنا وسقيت أرضنا بدمائهم.”
ليست أم أحمد الوحيدة التي فقدت غاليًا في هذه الفترة، لنفس السبب السابق، بل هناك عشرات العائلات، لم ينقضِ هذا الشهر إلا وودَّعت غاليًا، وكل الذنب لموتهم كان مشتركًا، تأمين لقمه عيش كريمة، من أراضيهم ومن رزقهم، كي لا يمدوا يدهم لأحد، طلبوا الحلال من الرزق، فكانت الشهادة من نصيبهم.
تبكي أم أحمد بحرقه: “أينما أنظر أرى باسل أمامي، (باسل الابن الأصغر لأم أحمد 14عامًا ) كانت كتبه تملأ البيت علينا، حقيبته، ملابسه، كل شيء منه حولي وكأنه موجود، أما أحمد قرة عيني (ابني الكبير) كان صديق وأخ وولد، كان بعد والده مدبر أمور المنزل ومعينًا لنا على الحياة، وأبو أحمد سندنا بعد الله لا يستطيع العقل تصديق ما حدث، رحيل موجع، بلا مقدمات، لقد ترك زوجي وأبنائي فراغا كبيرًا، لا أظن أن ذلك الجرح سيلتئم سريعًا، إنهم الخسارة الأكبر في هذه الحياة، وسأعيش على أمل اللقاء بهم إن شاء الله في الآخرة، لقد كنت منذ أيام حزينة جدًا على وضعنا ونزوحنا، حزينة على منزلي الذي هدم، وأرضي التي أصبحت حلمًا، أما اليوم علمت جيدًا أن كل أموال الأرض ومنازلها لا تساوي لحظة كنت بها مع زوجي وأولادي .”
لم تتطرق أم أحمد لحديث آخر، سوى أشواقًا لرؤية من عاشت عمرها معه ومن أسقتهم حنان قلبها، بقيت أم أحمد الآن مع ابنتيها وابنها الصغير وحيدة، تعاني ما تعانيه من مرارة، لا تظن أنها سيرتاح قلبها أبدًا.
أما أم عمر (لقب مستعار) 22 عامًا من ريف حماة الغربي تقول: “ذهب زوجي للعمل فقط بالريف الجنوبي بقطاف الزيتون، كان يعمل مع “ورشة” وفي أثناء ذهابها بين الطريق الواصل بين البارة وكفرنبل ليلاً، استهدفهم طائرة حربي رشاش، كان زوجي مع ابن عمنا، بعد تنفيذ الغارة، سقط زوجي وابن عمي من على الدراجة النارية، ابن عمي لم يصب بأذى، أما زوجي فقد أصيب بشظيه بفخذه، اخترقت فخذه وكسرت عظمه، بقي ينزف ما يقارب الساعتين، دون إسعافه من قبل أحد، يروي لخبر أبو عمر ما حصل معه وقتها في سبيل لقمة عيشه: “أحسست أني قد أفارق الحياة فبعد إصابتي ذهب ابن عمي لإحضار المساعدة، ولكن تأخر جدًا، فالطائرات الحربية تعود كل لحظه، لتنفيذ غاراتها، وخصوصا إذا كان هناك إشارة تشير إلى وجود أي إنسان، فالاستطلاع ترصد تحرك الناس بدقه، وبعد ساعتين من نزيف متواصل أحسست بأن أحدًا على الطريق، كان يركض مسرعًا، ناديت عليه، أرجوك أنا مصاب أنقذني، قال لي سأحضر المساعدة وأعود، هي أمال صعبة جدًا أن أعود لأرى زوجتي وأطفالي، وبعد قليل حضرت المساعدة، أخذوني إلى مشفى أورينت بالجهة الشمالية لبلدة كفرنبل، وهناك قاموا بوضع أسياخ لتثبيت الكسر، وها أنا طريح الفراش.” تقول زوجته: “كنا نأمل بدخل يعيننا، الآن نبحث عمَّن يساعدنا بإحضار الدواء والشاش لتبديل جرح زوجي.”
زيتون بطعم الدم، يتجرع مرارة وآلام من ذهب هناك وفقد أحدًا بالقصف، ومن لم يستطع يبقى بحسرة على رزقه الذي لا يستطع الوصول إليه، شهر قطاف الزيتون هذا لن ينساه أهالي الريف الجنوبي أبدًا، شهر سقيت فيه أشجار الزيتون من دم أصحابها.