بقلم : رئيس التحريرفي بداية القرن التاسعَ عشرَ حاولَ بعضُ الرسّامين المبتدئين أن يرسموا وجهَ الخلافة العثمانيّة كما تراها أعينهم، وأن يقصوها ويفصلوها ويركبوها كما ترغب أهواؤهم، فأُعجبَ القوميون العرب بتلك الأعمال واستهوتهم القصات الحديثة والدعوات القومية الجاهلية، قبل أنْ يكتشفوا أنَّ أصحابَها عُميان.وكان من بين المعجبين (الشريف حسين) الذي خرج من خيمته مرتديًا دشداشةً طبّيّة، ليقومَ بعملٍ جراحيّ جديد، فاستأصل قلبَ الأمة الخلافةَ وزرع في صدرها خنجرًا مسمومًا أهداه إليه حبيبُ قلبه (لورنس). يومَها شارك أجدادنا في العملية من دون أن يعرفوا المريض، ثم بكوا في جنازته!وبعد زمن اكتُشفت اللوحات الحقيقية للخلافة المظلومة، وتم العثور على دفتر مذكراتها ومذكرات خلفائها الذين فتحوا الدنيا وأقاموا شريعة الله، ولكنّ المفاجئ هو أنّ دفترَ مذكراتهم لا يحتوي على كلمات مرصعة بالبديع، مزينة بالأوراد، بل هو مجموعة من صور خدماتهم للإسلام، ولقطات من جهادهم ونضالهم.ففيها يظهر عثمان غازي وأبناؤه من بعده شوكةً في أجفان الصليبيين، ينشرون الإسلام في كلّ أرضٍ دخلوها فاتحين، ونرى فيها محمدًا الثاني ابن مراد الثاني يحمل كتابًا يقرؤه على شيخه آق شمس الدين، وسيفًا يُطلُّ به على القسطنطينية التي فتحها فنال لقب الفاتح، وتحققت على يديه بشارة رسول الله r القائل: ” لَتُفْتَحَنَّ الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ فَلَنِعْمَ الْأَمِيرُ أَمِيرُهَا وَلَنِعْمَ الْجَيْشُ ذَلِكَ الْجَيْشُ ” .وفي الشريط يظهر العثمانيون يحاربون الدولة الصفويّة الرافضيّة ويجرّعونها كأس المنايا، ويصدّون حملات الصليبيين التي تريد هدم الكعبة ونبش قبر رسول الله r . ويطلُّ الخليفة المظلوم عبد الحميد الثاني وهو يمزق عروض اليهود بشراء فلسطين، ويقول لهم (لا) الكلمة التي لا تزال تتردد في مسامع القدس وأقصاها. كان بإمكان عبد الحميد أن يقلب حياته بكلمة واحدة، وأن يحول السيف الذي طعن به إلى طوقٍ من الياسمين وأن يجعلَ (إسلام بول) مدينةً غبارُها ذهب وأمطارها فضّة، ولكنه أبى، فقد تعلّم من آبائه وأجداده أنّ الخلافة وأرضَها أمانة في عنقه.وتظهر في المذكرات دمشق فرحةً وهي تسافر كلَّ يومٍ إلى المدينة المنوّرة عبرَ خطِّ حديد الحجاز الذي أمر بمدّه عبد الحميد الثاني.أيّها القرّاء، بعد أعوامٍ طويلة تقف الخلافة العثمانية، وتغسل كتب التاريخ بمياه (مرمرة) حيث اختلطت دماؤها بمياهه، وتجد نفسها بعدما كانت كالطيور تفتش عن مكان دافئ في الشتاء، تقف لتجلو سيف عثمان وسليمان وبايزيد ومراد ومحمد رحمهم الله جميعًا، فيُكتبُ تاريخٌ ويمحى آخر، ويظهر الوجه الحقيقي للوردة التي حاولت خنقها الثلوج والعواصف.تمشي الخلافة اليوم في أوروبة وإستانبول فترى بقايا من آثارها في متاحفها وشوارعها، وتتجول في (شام شريف) كما تحب أن تسميها، فترى صورتها في قباب المساجد، وعيونها في مناراتها، وتقرأ اسمها محفورًا على جدران المدارس والجوامع وفي قلوب الناس، وتشمُّ رائحتها في أمطار الشتاء ومعاطف الأولاد الصغار، وتسمع صوتها في هتاف المجاهدين، فتحمد الله أنَّها ما زالت مسكونةً في قلب الشام وروحها وذاكرتها..