د. عامر المصطفى |
باحث لغوي متخصص في لغة الأخبار والإعلام – دكتوراه في اللغويات
قبل تدخلها رسمياً في 30 أيلول 2015، حاولت روسيا دعم النظام المتهالك في دمشق بكل السبل في محاولات مستميتة منها لمنع سقوطه، وبالتالي ضياع موطئ قدمها في شواطئ البحار الدافئة، لكن عندما شعرت أنه في حالة سقوط حر، وأن أكثر من ثلاثة أرباع البلد أصبحت خارج سيطرته، تدخلت وقصفت وقتلت وعاثت فساداً في الأرض، وكانت النتيجة عشرات الآلاف من الضحايا الأبرياء بالإضافة إلى زيادة مستويات الدمار التي سبق أن أحدثتها آلة الأسد العسكرية، وهذا نتاج طبيعي للتدخل الروسي، خصوصاً أن روسيا تملك سجلاً حافلاً من التدخلات العدوانية التي تسببت بخسائر بشرية فادحة ودمرت في بعض الأحيان مستقبل بلدان وشعوب بأسرها.
تاريخياً، دأبت روسيا (والاتحاد السوفيتي سابقاً) على اتباع نهج دموي غبي لتحقيق أهادفها امتزجت به المصالح الإقليمية بالضغينة العقائدية، والعدوان الروسي على شعب سورية ليس جديداً، فلقد تلطخت أيدي الروس بدماء الأبرياء منذ مئات السنين، خاصة أثناء الثورة البلشفية والإتحاد السوفيتي.
في القرن العشرين فقط، تم إسقاط أول جمهورية إسلامية باسم “جمهورية تركستان الشرقية الإسلامية” سنة ١٩٣٣م، ثم “جمهورية تركستان الشرقية” ١٩٤٤م بتدخل عسكري روسي جواً وبراً لصالح الصين الشيوعية بعد اتفاقيات سرية لتقاسم أراضي وثروات المسلمين في آسيا الوسطى، كما أعلن الرئيس الروسي الأسبق بوريس يلتسين الحرب على الشيشان بعد إعلان استقلالها عن روسيا وارتكب جرائم حرب وأباد أكثر من نصف شعب الشيشان دون اكتراث العالم والغرب ومنظمة الأمم المتحدة، طبعاً ناهيك عن دور روسيا المشبوه في كل المجازر الطائفية التي شهدها القرن العشرين في آسيا الوسطى وشرق أوربا وفي مقدمتها مجازر البوسنة والهرسك.
استمر الحال إلى يومنا هذا مع السفاح فلاديمير بوتين دون أي محاكمة لمجرمي الحرب ودون أي رادع، فأعلن الحرب على الشعب السوري عندما أحس وشريكاه الصين والنظام الصفوي في إيران خطر سقوط بشار فتدخل في سورية جواً وبدأ بقصف الشعب السوري بدعاية كاذبة مستغلاً تحالف الغرب على ما يسمى بتنظيم الدولة الإسلامية، لكن الوقائع أثبتت أن الروس يقصفون المعارضين لنظام بشار دون داعش (كل الهجمات الروسية كانت على مناطق خالية تماماً من التنظيم الإرهابي) وكأن لسان حالهم يقول إن داعش حليفاً إستراتيجياً لهم ويخدم مصالحهم بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.
اختصر سيرغي شويغو، وزير دفاع بوتين، بشاعة العدوان الروسي بقوله: إنّ بلاده اختبرت “أكثر من 300 نوع من الأسلحة الروسية في سورية” وذكرت مجلة (ناشونال إنترست) الأميركية أنّ روسيا استغلت تواجدها في سورية لاختبار العديد من الطائرات بما في ذلك المقاتلة (Su-35)، والمهاجمة الإستراتيجية (Tu-160) والمقاتلة الشبح (Su-57)، بالإضافة إلى العديد من الصواريخ والقنابل الذكية.
كما أكدت مصادر رسمية في موسكو أنّ وزارة الدفاع قررت وقف إنتاج 12 نموذجًا من الأسلحة بعد تجربتها في سورية وثبوت فشلها، وسبق للرئيس بوتين أن قال، في وقتٍ سابق: إنّ “الحرب السورية وفرت مجالًا لا يقدر بثمن لتجربة السلاح الروسي في ظروف ميدانية حقيقية لم تكن ساحات التدريب لتوفرها أبدًا.”
ومما يندى له جبين الإنسانية وينفطر له القلب قيام المؤسسات الروسية المختصة بالترويج للسلاح الروسي بوضع (علامة مسجلة) لكل طرازات الأسلحة التي جُربت في سورية، فهي في إطار حملاتها الترويجية ونقاشاتها مع الأطراف حول توقيع صفقات جديدة تستخدم عبارة “تم اختباره في سورية” لتكون بمثابة (علامة الجودة) لهذا السلاح أو ذاك.
المجتمع الدولي لم يحرك ساكناً رغم كل ما سبق، ولم يقم بشيء يذكر لوقف العدوان الروسي، متذرعاً بعجز مجلس الأمن عن التحرك بسبب الفيتو الروسي على الرغم من نص الفقرة الثالثة من المادة 27 من ميثاق الأمم المتحدة على امتناع أطراف النزاع في التصويت على قرارات مجلس الأمن، وروسيا أصبحت طرفاً رئيساً في النزاع ولها قواعد عسكرية في سورية لا تخفى على أحد.
وبالعودة إلى الجانب العقدي، لقد أحيت الحكومة الروسية على النطاق العسكري والسياسي التعبئة علناً لخدمة مصالحها في الشرق الأوسط، واستعان المارق بوتين بالكنيسة الأرثوذكسية في روسيا ليكسب تأييد شعبه ممن لم يقتنع بذرائع التدخل العسكري الباهظ الثمن من أجل دعم ديكتاتور في بلد بعيد من المفترض أن لا يكون للشعب الروسي به لا ناقة ولا جمل، ثم ليستدر عطف مسيحيي الشرق، وفي هذا الصدد أعربت الكنيسة الأرثوذكسية عن دعمها لقرار موسكو شن حرب عدوانية على الشعب السوري، ووصفت هذا التدخل بالمعركة المقدسة، ونقلت وكالة إنترفاكس الروسية للأنباء عن رئيس قسم الشؤون العامة فسيفولود تشابلن، قوله إن القتال ضد الإرهاب هو معركة مقدسة، وقال بطريرك الكنيسة الروسية كيريل: (لقد اتخذت روسيا قراراً مسؤولاً باستخدام القوة العسكرية لحماية الشعب السوري من المعاناة التي يلحقها به الإرهابيون، وأضاف البطريرك، إن التدخل المسلح ضروري، لأن العملية السياسية لن تؤدي إلى أي تحسن ملحوظ في حياة الأبرياء المحتاجين إلى الحماية العسكرية).
ويتساءل القارئ المسيحي قبل المسلم أين “القداسة” في قصف المدارس وتحويل الأطفال لأشلاء متناثرة ملأت صورهم العالم؟ هل هناك صفاقة ووقاحة أكثر من وصف استهداف المخابز والمستشفيات والأسواق الشعبية وتحويلها إلى برك دماء “بالقداسة”؟
وهل تكون “حماية الشعب السوري” في دعم نظام طائفي مارق في مجلس الأمن وتأمين الغطاء الدولي له ليتلذّذ في إبادة شعب بأكمله ويمارس تطهير عرقي قذر في مأساة لم يشهد العالم لها مثيل منذ الحرب العالمية الثانية؟ هل تكون حماية الشعب السوري بالإجهاز على من لم يستطع قتله النظام الدكتاتوري القابع في دمشق ونهب ثروات البلد وإقامة قواعد عسكرية طويلة الأمد؟ طبعاً من السذاجة مجرد التفكير بربط فداحة ما ارتكبه العدوان الروسي من قتل وتشريد للشعب السوري بأي نوع من أنواع القداسة والمعتقدات، فهل يوجد رب في هذا الكون يقبل أن يكون التقرب إليه عن طريق جعل تمزيق أجساد الأطفال حقلاً لتجارب الأسلحة؟
لا أعتقد ذلك حتى وإن كان هذا الرب بقرة عجماء أو صنماً من أصنام الجاهلية، فما بالك بمن يقتل باسم الله تعالى ونبيه عيسى عليه السلام؟ وإذا كانت هذه هي عقيدتهم إذاً بماذا يختلفون عن تنظيم داعش الإرهابي؟ الشعب السوري على يقين تام أن القتلة أياً كانوا إن أفلتوا من عدالة الأرض فلن يفلتوا من عدالة السماء وعقاب الله الذين يدّعون عبادته.