حازم العلي |
خلق الله الإنسان بقلب ينبض بالمشاعر وعقل يفكر وجسد يتحرك، تتلاحم هذه الثلاثة في كيان واحد لتشكل فيما بعد إنسانًا متفردًا بما تصقله الحياة بالخبرات والتعلم والتربية والدين والمجتمع، فينشأ كل إنسان بخصائص وصفات يتفرد بها عن غيره ويجتمع في صفات أخرى معه.
فليس أحد من الناس يولد متعلمًا ممَّا يجعله يتلقى التعليم فيما بعد في المدرسة والبيت ليحافظ على قيمته الإنسانية بين الناس ويتمكن من العيش الهانئ ليطمح ويؤسس ويبني.
وكذلك الجسد الذي هو صورة كل إنسان ينبغي أن يُعتني فيه بالطعام والشراب ويقيه ما يضره حتى يبقى متينًا سليمًا يكمل مع العقل مسيرة الحياة السعيدة بسلام.
أما ذلك القلب سيد الأعضاء كلها المحرك لها وبه النجاح والفلاح، فهو مصدر قوة شخصية الإنسان وتأثيره، وأعني بالقلب هنا (النفس أو الروح) وليس تلك العضلة التي تضخ الدم للجسم، فهي عضو من أعضاء الجسد لها خصائصها ووظائفها أعني “ونفس وما سواها فألهما فجورها وتقواها” نعم إن في هذه النفس ما يجعل الإنسان راقيًا وخليفة في الأرض ومفضلاً على سائر المخلوقات، فيها العزة والكرامة، وفيها الحرية، وحب الخير، وفيها الإحساس بالغير، فيها الحب والكره، فيها الألم والفرح، فيها الصبر والجزع، فيها الإيثار والأنانية، فيها القهر والعزم.
كتلة من المشاعر والطبائع تحرك سلوك الإنسان وتوجهه، لذلك جاءت الشريعة الإسلامية بمصدريها الأساسيين (القرآن الكريم، والسنة المطهرة) تحثنا أن نولي النفس الاهتمام الكبير تربيةً ومراقبةً وتزكيةً، لذلك قدمت الشريعة الاهتمام بها على الاهتمام بالعقل والجسم، ففي الحديث: “ليس الشديد في الصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب”
ولقد آتت هذه المعاني أُكلها في نفوس الناس في تلك العصور، فغدوا عظماء أقوياء أحرارًا وكرماء لا يقبلون العبودية والذل إلا لله، يحبون الخير ويفعلونه تخلقًا، وإذا ما أصابهم أمر صبروا ورضوا، فأصبحوا بحق قادة للنفوس يعرفون كيف يديرون أنفسهم.
استوجب مني أن أقدم تلك المقدمة حتى أصل السابق باللاحق والقديم بالحديث، فنعرف الفرق الشاسع الذي تحدثه تلك النفس بالأفراد والأمم.
اليوم انصب كل الاهتمام على التربية الجسدية أولاً، فترى الناس يتخيرون ويتقنون أطايب الطعام والشراب ويتحيرون بأنواع الثياب ويتابعون آخر الموضات في التجميل والتحسين.
وثانيًا، ذهب كثير من الناس للدراسة والتعلم للعلوم النظرية والتطبيقية والحصول على شهادات وامتيازات في حياتهم، أما النفوس فقد ارتُكِب بحقها أبشع الجرائم وأدوها وهي حية وكموا أفواهها لكيلا تصرخ وتحيا من رقاد؛ لأنها إذا صرخت زجرت.
سأورد مثالاً رغم بساطته واعتياده لكنه ذو أثر كبير في قتل الكرامة، يولد الطفل بأحسن تقويم، خلقة رب العالمين وفيه كل القوة النفسية ليكون حرًّا كريمًا شجاعًا يأبى الذل والمهانة، لكن هذه النفس لا تصلح في هذه المزرعة، فتبدأ أولى مراحل وأدها من الأبوين، فلا يكاد الطفل يعبر عن حريته بحركة زائدة أو كسر كأس من الشاي حتى تنهال عليه سياط الذل وكلمات العبودية، وتأتي المدرسة لتكمل المهمة فترى الطالب يسمع من معلمه ألفاظًا لا تُقال إلا للحيوانات أو العبيد، وتستمر الجريمة حتى يصبح الطفل شابًا، وأي شاب بعد كل هذا العبث بنفسه كل هذه السنين قد يصبح طبيبًا، وقد يصبح مهندسًا، وقد يصبح شيخًا، لكنه دون كرامة! أي شيء يعدل كرامة الإنسان مهما بلغ وجمع في الدنيا؟!
اتضح لنا هذا الحال واقعًا في الثورة، فرأينا الطبيب الذي بقي مع جيش النظام وفضله على أهله في مناطق الثورة وهم بحاجة إليه، والشيخ الذي لم تحركه كل هذه الدماء واختار منابر النظام وشبيحته على منابر الثورة وأحرارها، إنه الذل والعبودية التي ماتت في نفوسهم فأي شيء يحركهم؟!
لعقود من الزمن يسعى النظام بكل مؤسساته لذلك، وإنها بقية الكرامة التي لم تطلها يد النظام ما زلنا نحارب لأجلها تحرك نفوسنا كلما سكنت.
هي رسالة لكل معلم ومربي لا تكن عونًا للنظام في قتل كرامة أطفالنا، الكرامة قبل العلم.