جلستُ وعائلتي وأصدقائي ومعارفي وكل العرب في سهرةٍ مسائيةٍ لنشاهد ذلك الوجه المشؤوم الذي ليس بأكثر شؤماً من غيره من الوجوه التي اعتدنا جعجعتها على هذه الشاشة، كمن يجتمع ليحضر جلسة في محكمة كلُّ من فيها بما فيهم القاضي من رحم الجاني اجتمعوا ليقلبوا الحكمَ على المجني عليه رأفةً بمشاعر قريبهم المجرم، نترقبُه وهو يعترف بالقدس عاصمةً لإسرائيل، ثم تُرفع الجلسة ببساطةٍ دون أن تهتز الشاشة أو يسقط أحد الأبراج العالمية، أو يقدم استقالته قائد شريف، أو يسقط عرش طاغيةٍ جائر، بل يعمُّ الهدوء هكذا كنهاية كلّ صدمة اعتدنا تلقيها.
تنظر إلى الوجوه ترى كيف يعلوها الأسف والخذلان، وكثيراً من الحزن الدفين، في هذه الأثناء اختلط الأمر عليَّ كثيراً، فعلىٰ أيِّ وطن بالتحديد نحزن، أنبكي العروبة أم جرحنا السوري، أم نزُفّ القدس شهيدةً.
تعمدتُ أن أتصفّح آخر الأخبار في مواقع التواصل الاجتماعي، لا أدري السبب ربما لأرى الخيبة الجماعية والعزاء الذي يُفتح عادةً ثلاثةَ أيامٍ ثم يُغلق كما تُغلق كلُّ ملفات المجازر والجرائم السابقة بحقنا، وكما تُعلق كلُّ المعاهدات والاتفاقيات التي ترسم حقوقنا، خطر لي كم أنَّ الإرهاب والعمليات الفدائية شيء جميل في يومٍ كهذا، تمنيتُ لو أنَّه قُتِل قبل أن يخرج أمامنا ليقولها بكلِّ وقاحةٍ، تلك الوقاحة التي يسمّونها في الخطابات الأدبية جرأةً وشجاعة.
بعد ساعات كان قد أعلن الجميع عن أسفهم ورفضهم واستنكارهم، كانت ليلة سوداء بامتياز، فقد كنّا نسمع الأخبار عن احتلالنا من قِبل أعدائنا من أجدادنا، أو نقرؤها في كتب التاريخ، لكننا اليوم نراها بأعيننا ونسمعها بآذاننا، ورغمَ ذلك لازال الأمرُ طبيعياً في بلاد العرب أوطاني، وكلهم يقول في نفسهِ: مهما كانت ليلة سوداء فلن تكون أسوأ من ليلةِ سقوطِ أحدهم، فبعضُ الشرِّ أهونُ من بعض بلا شك.
في الصباح استيقظتُ كمن يستيقظ من كابوسٍ كئيبٍ لازالتْ آثارُهُ عالقة في مخيلتي، أتصفّح آخر الأخبارِ بمللٍ وسآمةٍ ككلِّ العرب دون أن أتوقع شيئاً مهماً أو جديداً
– ترمب يعدُّ خطة للسلام للحدِّ من الغضب بشأن القدس.
– سيلٌ من الردود الغاضبة والمنددة بقرار ترمب بشأن القدس.
– مسيرات غضب بمدن عربية تضامناً مع القدس.
كما توقعت، لا جديد، لكن خطف نظري خبرٌ بدا هامشياً لكنه قوياً، ليبيا: تفجير القنصلية الأمريكية احتجاجاً على قرار ترمب.
لا أنكر فرحةَ قلبي التي حاولتُ أن أخفيها بعدم تصديق الخبر، لكن ما وثّق لي الخبر أنَّ كلُّ القنوات والمواقع تتناقله، وبعد ساعات الأمر ذاته في لبنان، في الأردن، في الجزائر، لا أنكرُ أنَّها أعمالٌ فوضوية بعض الشيء، لكن الرصاص في الكرامة الوطنية لا يُردُّ بالورود، ثم تصدّر الأخبار إعلان الإضراب العام في مدن وعواصم عربية عديدة، ممَّا زاد التجمع والتظاهر في المناطق السياسية والساحات العامة، والأحياء الشعبية، وانطلقت المسيرات من كلِّ مسجد، كبَّرت المآذن وخرجَ الناسُ من بيوتهم، فهذه القدس مهدُ الديانات السماوية وتاريخنا وحضارتنا وفتوحاتنا منها بدأتْ، أخذتْ الحناجر تصرُخ بحرقةٍ، ليسمع كلُّ العالم
“الموتُ لإسرائيل”
“إسرائيل محتلة والمحتل لبرا”
“القدس لنا القدس عربية إسلامية”
ليعلم الجميع أنَّ الأمرَ جللٌ ومصيبةٌ كبرىٰ، فلتنطق الحجارة، فلتعصف الرياح وتنفجر البراكين، ولينقلب العالم رأساً علىٰ عقب، أليست هذه القدس أرضنا المغتصبة واليوم يتم تقرير اغتصابها علناً؟! أيتمُ الأمرُ بهذه السهولة أو يحدث دون ضجيجٍ ومقاومةٍ ودماء؟!.
صوتُ رنينٍ قويٍّ دوىٰ بأذني، وإذْ به صوتُ منبه هاتفي، يرن ليُعلن انتهاء الحلم، لا أدري أكان حلماً أم وهماً، لكن أياً كان فقد جعلني أفقهُ جيداً كيف أنَّ الأمر حقاً يبدأ من أنفسنا ومن مبادئنا وقبولنا أو رفضنا بعيداً عن شتمِ الزمانِ والحكامِ.
إنَّ الأمر وعي أمة وثقافة شعب، وتبني القضية بصدق وإخلاص لها، وليس التعامل معها كحالة عاطفية سرعان ما تخمدها وتغطي عليها مشاكل وأعباء الحياة التافهة، لنذكر أنفسنا دائما بأنَّه لازال هناك مقدسات كثيرة وأوطان علينا العمل من أجل حمايتها واسترداد ما اغتصب منها، إنَّ اللعبة لم تنتهِ، لازال أمامنا كثير من الوقت وكثي من الجهد والتعب، والشعارات لن تنخفض ولن تتوقف، لكنَّها لن تبقى تنظيرية جامدة، سنحركها بسواعدنا ونحولها إلى قيم فاعلة تخدم قضايانا وتعلي شأن أوطاننا.