بقلم : رئيس التحرير الأستاذ محمد زايغ |
تستطيعُ الصّحافة الدُّميةُ الموصولةُ إلى أصابعِ الأنظمةِ الطّاغوتيّة بخيوطٍ شفّافةٍ أن تلعبَ دورين اثنين في فلمٍ كوميديّ أو تراجيديّ واحد، وتستطيع أن تظهرَ مرةً بهيئة الماركيزة دي بومبادور ومرةَ بهيئة شحّاذةٍ تقفُ على باب إحدى الوزارات، وتمشي كما يريدُ صاحبُ العربةِ الذي يقودُها وكما تريدُ أفرعُ الأمنِ التي تستطيعُ أنْ تحوّلَ الحصانَ العربيَّ الأصيلَ إلى ببغاء.
لا شكَّ أنَّ الصحافةَ ليست نجمةً في هوليود تلتزم بالنّصّ الذي يخنقها بهدوء وبالسيناريو الذي يشبه إشاراتِ المرور، إنّها مَنْ يكتب السيناريو ويوزّع الأدوار ويقول (stop) عند الأخطاء.
لا نريد الصحافة التي تنام في قِنِّ الحكومة عندَ الغروب وتستيقظ صباحًا حاملةً معها طبقًا من البيض البلديّ، فالكلمةُ الحرّة لا تعمل فقّاسةً في مدجنة السلطة، ولا تُجيد صنعَ العسل ولا تملك آلةَ غزلِ البنات لتبيع لمَنْ يدفعُ أكثر، إنّها لا تملك بساطًا سحريًّا أو فانوسًا عجائبيًّا أو حصانًا أحمرَ كحصانِ لوبو فانغجيان، ولكنّها تملك إرادةَ التحريض وإرادةَ التغيير.
الصحافة الحقيقية خرجت من رحم الواقع وتربّتْ تربيةً بيتوتيةً، ونشأتْ في جوٍّ لا يعرف الغشّ أو التّزلّف، فلم تشرب حشيشةَ الأنا ولم تدمنْ على السُّباب.
لا تستطيع الكلمةُ الصادقة أن تعقدَ الصفقاتِ مع اللواء الفلانيّ أو تداهنَ الكتيبةَ العلانيّة، فهي ليست تاجرةً في سوق المدينة ولا تعمل مسيرةَ معاملات أو بائعةَ طوابع، إنّما هي طفلةٌ صغيرةٌ تحملُ علبةَ ألوانٍ في يد وهمومَ الأمّة في يد، تتجوّل في وطنها وتطلب من النّاس أن يشربوا ماءَ الحياة ويستنشقوا هواءَ التفاؤل.
تحاربُ الكلمةُ البشاعةَ بأسلوبها الخاص وبطريقتها الخاصة، فهي ليست نسخةً ثانيةً عن أحد، ولا تتعامل مع أوراق الكربون ولا تعلم أنّ في الكبتار خِيارًا اسمه قصّ – لصق.
بعضُ المفسدين في الأرض يريد أنْ يروّضَ هذه اللبوة ويقلّمَ أظفارَها، لكي تعملَ في كتيبته خادمةً تقدّمُ الشايَ والقهوةَ وتلفّ له سيجارةَ الحشيش، وبعضُ اللصوص يريدون منها أنْ تتحوّلَ إلى خبيرةِ تجميلٍ تجمّلُ القبيحَ وتبيّضُ الوجوهَ السوداء، لم يعلمْ هؤلاء أنَّ الكلمةَ لا تُكحّلُ العيونَ القبيحةَ ولا تضعُ الرّوجَ على الشّفاه المهترئة ولا ترشُّ ماءَ الوردِ فوقَ النتن والقذارة.
نستطيعُ الآنَ في حبر أنْ نجعلَ حلبَ مدينةً طوباويّةً فاضلة كما يفعلُ السينمائيونَ عندما يحملون مصوراتِهم، بإمكاننا أنْ نجعلَ الثّورةَ مسلسلاً مكسيكيًّا ممتعًا يحوّلُ اللصَّ إلى شيخ والخائنَ إلى أمين والشبّيحَ إلى قائدٍ نظيف والمنكرَ إلى معروف والوردةَ إلى خنجر والذبابةَ إلى فراشة، وذلك بمئاتِ الخدعِ البصريّة التي تُوحي لك أنّ الدماءَ المتدفّقةَ ليستْ إلّا شرابَ التّوت الذي تشربه صيفًا!، تستطيعُ الصحافةُ فعلَ ذلك، ولكنّها تُفضّل أن تكتبَ بالأحمر، اللونِ الذي ينبضُ بالأمل ويضجُّ بالتّحدّي.
ليست وظيفةُ الكلمةِ أنْ تُقدّمَ لك حبةَ إسبرين أو حبةً كتلك التي يتناولُها بعضُ اللصوص وقطاع الطرق، تنيسك الواقعَ الغارقَ في الوحل، فمهمّتُها أنْ تسحبَ مسمارَ الأمان وتشعلَ الفتيلَ لتتفجّرَ مئاتُ الأسئلةِ المخبوءة في صدر كلّ واحدٍ منّا، وأنْ تكسرَ الأقفالَ المحاطةَ بالشمعِ الأحمرِ التي لم نعدْ نفرّقُ بينها وبينَ أفواهنا.
عُرِضَ على الصّحافة يومًا أن تعملَ ممرّضةً في قسمِ التّخدير، فأحرقتِ العرضَ مع النفاياتِ، لأنّها تعلمُ أنّها وُجِدَتْ لتُيقظَ النُّفوسَ لا لتنيمَها وتخدّرَها، إنّها تجيدُ الصعقاتِ الكهربائيّةَ التي تُعيدُ الإحساسَ إلى من فقدَه، وهوايتُها أنْ تسكبَ الماءَ الباردَ فوقَ الرؤوسِ المتوقفةِ عن العمل.
تُرى هل هذه صحفُ الثّورة؟