إنَّ محاولة الوقوف عند مختلف المواقف السابقة ربَّما تجعلنا أكثر وعياً في التفاعل مع الخطابات السياسية، وعدم تحميلها أكثر ممَّا يمكن واقعياً، مع التسليم بأنَّ الوعي السياسي الشعبي لا يمكن السيطرة عليه تماماً، ولا نطمح إلى ذلك، فهو سيبقى رهيناً لأسباب تشكُّله وحوامله الأساسية التي يشكِّل عمادها وترا العاطفة والدين، ويغذيها باستمرار المستفيدون منه ذاتياً كأشخاص يرون كينونة وجودهم في الحفاظ عليه، وككيانات تحاول تجييره لخدمة مصالحها.
ولكن ربَّما محاولة فهم هذه المواقف والمصالح المتباينة في السياسة تخفف من وطأة الصدمة على الجماهير، ويبدأ القادة الشعبيون بفهم ما للخطاب السياسي وما عليه، فلا يحاولون التعالي أكثر في خطابهم، وحمل الجماهير لخيبات متلاحقة تجعلهم أكثر تقبلاً للهزيمة، وأكثر انكساراً وتبنياً لنظرية المظلومية العالمية، ممَّا يجعل اليأس هو سيد المواقف واللامبالاة هي الممارسة فقط.
إنَّ فهم التمايز بين الخطاب السياسي وضروراته، والممارسة السياسية القائمة على المصلحة الفعلية، ونقل هذا الفهم للجماهير بشكل دائم بهدف توعيتها، سيساهم في دفع عجلة العمل نحو الممكن دائماً، والتخلص من اليأس لصالح الأمل الذي يغذيه الجهد والاجتهاد، والوصول إلى حلول مؤقتة في سبيل تحقيق النصر، بدلاً من الغوص في مقولات الثورة والفوضى والشعارات الرنانة والمثاليات المفرطة دون تحقيق أي شيء.
هذا الكلام لا يعني أبداً التخلي عن الثوابت والمبادئ والأهداف، والاكتفاء بالممكن، لكنَّه يصرُّ على أنَّ الممكن هو طريق للوصول إلى الغايات العظيمة، طريقٌ لا يتم التخلي عنه، وفي الوقت نفسه لا يُكتفى به.
إنَّ بناء التحالفات والحفاظ عليها، والدفاع عن مصالح الحلفاء هو ما يجعل مصالحك في أمان عندما تنجح في خلق التقاطعات بينها وبين مصالح الآخرين، أمَّا أن تقرر فعل كلِّ شيء وحدك أو من زاوية مصالحك فقط، فعندها ربَّما ستكون الخاسر الوحيد عندما سيتم اقتسام الكعكة التي هي أرضك وقضيتك المقدسة.
المثاليات مقولات لتربية الأجيال، غايات الأزمان المتعاقبة، وليست أبداً الغايات التي يبدأ عندها الكفاح وينتهي كخطوة واحدة.
وكلُّ الذين يرتهنون للشعارات فقط. ولا ينظرون إلى ممكناتهم الحقيقية وإلى الظروف المحيطة بقدرتهم على العمل والإنجاز مرتهنون للهزيمة المحققة، ولا شيء سيستطيعون فعله سوى البكاء على الأطلال، ومحاولة إيجاد مكان في سجل الخالدين كملهمين أو حمقى، .. علينا أن نكفَّ عن اتباعهم.
المدير العام | أحمد وديع العبسي