جاد الغيث |
خلقت بعين واحدة، لم أشعر بالنقص أو الحزن، بل كنت مسرورة راضية، كنت أعيش وحيدة في بيتي الأسود قبل أنا أبصر النور وأرى الحياة المليئة بالألوان حولي. بعين واحدة فقط رأيت أجمل الوجوه وأروع المناظر الطبيعية، كانت تسعدني رؤية وجوه الأطفال البريئة وضحكاتهم التي تنزع الحزن من القلب، وكم كنت أعشق زيارة الأسواق والأماكن الشعبية التي تضج بالحياة والبضائع والناس، لقد غصَّت ذاكرتي بمئات الآلاف من الصور والتي ترتبط بأحلى ذكرياتي.
ولكن في مساء يوم ماطر تغير كل شيء في حياتي، لقد هجرني صاحبي وعدت لأسكن بيتي الأسود بعدما تنقلت معه من مكان إلى مكان واستمتعت بصحبته في أماكن لم أكن لأعرفها، كان يحملني بين يديه، يُدللني، يُغازلني، ويمسح عَيني بحب وشغف، ولكنه للأسف هجرني.
عدت إلى بيتي المغلق ورحت أستعيد تلك الصور الجميلة المخزنة في قلبي، كنت أُسلي نفسي، فالوحدة والعتمة لا تطاق، وأنا أعشق أن أكون بين الناس وتحت الأضواء…
مكثت أيامًا وحيدة حزينة، بعدها وجدت نفسي انتقل من يد إلى يد، ومن مكان إلى آخر! من وطن آمن تتوفر فيه كل مقومات الراحة والسعادة، إلى بقعة جغرافية تُعد أخطر مكان على وجه الأرض.
أغلب الظن أن صاحبي وقع في حب واحدة أخرى، فهجرني إلى الأبد، انتزع ذاكرتي وقدمني هدية لصديق له يُحبه كثيرًا، وحين صرت بحوزة صاحبي الثاني، نبض قلبي بعنف، نظرت إليه لأول مرة، كان وجهه أسمر مدورًا، وشعره أسود غزيرًا وطويلًا، يشع من عينيه بريق حياة لم أعرف تفاصيلها بعد.
أما هو، فقد نظر إليَّ بفرح كبير، لمسني باهتمام، وكاد يقبلني لولا الحياء، ومنذ تلك اللحظة بدأت حكايتي المليئة بالأوجاع، حكاية مأساة وألم بلا نهاية جعلت قلبي ينفطر في كل لحظة عشتها مع صاحبي الجديد.
بعين واحدة لم تستطع أن تذرف دمعة، كنت أرى كيف يُقتل الناس ويعذبون، كنت أرى كيف يسقط برميل متفجر فيتحول المكان إلى دمار، والبشر الأبرياء إلى أشلاء، تتطاير الحجارة هنا وهناك، تخترق الشظايا قلوبًا نابضة فتُوقف نبضها، وتخترق وجوهًا جميلة فتشوه حسنها.
كنت أرى وأرى، ما لا عين رأت، ولا خطر على قلب بشر من قهر ودمار وألم!
من خلالي كان العالم كله يرى صورًا مروعة ودامية، صورًا تقشعر لها الأبدان، ولكن لم يخشع قلب ولم تدمع عين، ومايزال القتل مستمرًا، وما أزال التقط الصور بعيني الوحيدة.
أعتذر لأولئك الذين ماتوا تحت الأنقاض وأنا ألتقط صور الخراب المتراكم فوقهم،
أعتذر وأبكي مع الأمهات اللواتي رأينَ أطفالهنَّ يخرجنَ من بين الأنقاض موتى، أعتذر لمن رحلوا دون وداع، دون قبلة على الجبين، دون جنازة أو حتى دون كفن..!
أنا كاميرا لمراسل حربي يعيش في سورية يواجه الموت في كل يوم عشرات المرات، ولكنه لا يستسلم، يمضي معي لنقل الحقيقة، أنا بعين واحدة لكنني رأيت وتألمت وبكيت من أجل ملايين العيون، وأثق أنني في يوم قريب سأرى وجوه المنكوبين وقد عاد إليها بريقها، وضحكات أطفالهم أجمل ما يمكن أن تراه عيني الوحيدة حينها.
1 تعليق
عبد الجبار حسون
حقاً، أبدعت خيل ألي أنك تتحدث عن فتاة، هذا الأبداع بنقل القارئ من مكانه ليتخيله الكثيرين رائع صديقي لا جف حبرك …😍