باعتبار الأسرة المحضن الأوَّل للإنسان الذي يعيش فيه أطولَ أطوارِ حياته، فهي إمّا أنْ تكون مصدرَ خيرٍ وبناءٍ له أو معول هدمٍ لشخصيَّته.
التباينُ التربويّ بين الأسر واختلافِ أساليبهم أدَّى إلى ظهور أفرادٍ ناجحين وأفرادٍ غير ناجحين، ويعدُّ مُربي الأسرة مسؤولا في الدرجة الأولى عن أيِّ شذوذٍ يظهر لدى المتربي في مراحل قيادته وولايَته عليه، من هنا توجبَ على المُربي الحذر من مغبَّةِ الإهمال في التربية، فكان عليه أن يسخِّرَ عقله وما آتاه الله من العلم والمعرفة لخدمة نفسه ومجتمعه، فالواجب الحقيقيّ المتعيَّن عليه يتعدى سعيَهُ في تأمين الطعام والشراب والمأوى لرعيته فحسب، مع أنَّها الحاجات الأساسية للاستقرار! لكنَّ كائناتٍ أخرى غير البشر تقوم بذلك أيضاً.
لذا كان على الإنسان أنْ يُمايزَ نفسه عنها بنمط المعيشة وكيفية تحريك جسده واستخدام طاقاته بما هو نافع دونَ ما هو ضار، ويساعده في ذلك تمتُعِه بخاصيّة الضبط الغريزي ومجاهدة النفس، لأنَّ مبدأ السيئات عند الإنسان يكمُنُ في الغضب والشهوات، فالغضب يجرُّ إلى الرذائل السلوكية من السبِّ واللعن والضرب وربَّما القتل!
كذلك الشهوات تأتي منها المعاصي والرذائل الأخلاقيّة كالغشِّ والسرقة والزنا وغيرها، وكلَّما كانت قيادة الفرد واعية وموزونة كلَّما كان أقدرَ على ضبطِ دوافعه النفسية في خيرها وشرِّها. فالفرد البالغ بوصفه مسؤولا عن نفسه يجدر به أن يكونَ ذو وازعٍ دينيّ، وباعثٍ داخليّ ميزانُهُ الحلالُ والحرام، كما أوجبَه له الشارعُ، وأنْ يربيَ حواسه تبعاً لثقافة الضبط والكبْت، فلا يمكن لأيِّ تربية أن تنطلقَ وتنبثقَ من فراغ. والذي يلاحظ في نفوس الأفراد أنَّها تختزن طاقاتٍ وعواطفَ متنوعة أشبه بالمادة الروحية تسري في العقل الباطن، لكنَّ الذي يختلف فيها طريقةُ التعاطي مع هذه الطاقات ومواضعُ ومحلات تفريغ هذه العواطف.
ولا شكَّ أنَّ لكلِّ إنسانٍ نصيبٌ من طاقة اللسان الكلاميّة، فإذا أردنا تطبيقَ ثقافةِ الضبط والكبت عليها فهي قابلة للتفريغ الودّي مع الناس على اختلاف المواضيع بينهم ودرجة خيريَّتها، وهذا ما يسمى بضبطِ الحاسّة من حيث الكم والكيف، أمَّا الترفع عن شرور اللسان من كذب وغيبة ونميمة، وترك اللغو والتحدث في أعراض الناس، فهذا نسميه كبتَ الحاسّةِ. وهو المطلوب منّا وما علينا مراعاته عند فتح أفواهنا لغير الأكل.
فلنقُلْ خيراً أو لنصمُت! كذلك هي الحاسة السمعيّة تضبط بالاستماع إلى كلِّ ما هو خير، وتكبت في التجسس واستراقِ ما داخل البيوت لإيقاعِ الشرِّ بأصحابها والإفادة ممَّا سُمِعَ من حديثهم لاستخدامه وقتَ الحاجة، وكثيرة هي المنكرات السمعية، وبالمرور على حاسة البصر نجد أنّها تضبط بالنظر إلى جميع المحللات على صعيد الأشياء والأشخاص والتمتع بها، وتكبت عن المحرمات منها كبتاً تاماً، فمن قوله تعالى في الآية الكريمة: “إنَّ السمعَ والبصرَ والفؤادَ كلُّ أولئكَ كانَ عنهُ مسئولا”.
يمكننا أن نشيرَ إلى خطورة سوءِ استخدام الحواس فكلُّ صغيرةٍ وكبيرةٍ نُسألُ يومئذٍ عنها. وكان فيما ذكرناه سابقاً أنَّ هذه الثقافة تنطبق على العواطف أيضاً، فمنَ الخُلُق الحسن أن يكبتَ الإنسان غضبه في الأحوال العاديّة في تعامله مع الناس، وأنْ يضبطَه بين قليلٍ عند الحاجة، وكثيرٍ عندما يكونُ غضباً خالصاً للّه على معتدٍ انتهكَ حُرُماته.
كذلك هي طاقة الحب تضبط بين الأهل والأصدقاء والجيران بالعفة الفطرية، والسليمُ أن تُكبَت عن الأهواء بالتعفف المتعمّد والصبر. وبالعودة بالحديث إلى سلامة التربية يجدر بالمُربي المُوَلّى على رعيته وعلى نفسه كفرد بالغ، أن يتعلمَ ويُعلِّمَ هذه الثقافة، وأن يعملَ بها لتلقى القبول المرن من الآخرين، وتُتَخذَ قدوةً فيما بعد، وتجري مجرى العادات اللاشعورية الحسنة.
ربَّما يصعبُ تطبيقُها في مبدأ الأمر، لكنَّها سرعانَ ما ستصبحُ كغيرها من الأفعال تأتي في حكم الاعتياد، وبالرغمِ أنّ بلوغَ الإنسانِ حدَّ الكمال الأخلاقيّ مُحال، لكنَّ ذلك لا يُثنيه عن الاستمرارِ بمحاولة التقرُّبِ من الصواب وركوب جادّةِ الحق، وإنْ اعترضَتهُ الصعابُ والآثام، فليس الإشكالُ بالوقوع في الخطأ بقدرِ ما هو الرضا عنه والسير فيه، وليس بشرٌ يخلو من العيوب والذنوب طِوالَ ماهي كامنةٌ في نفسه كالنّار في الزناد لكنَّ العاقلّ من تنبَّه و اتعظ، والغافلَ من تكبّرَ و أبى.