جاد الغيث |
كنت أهرع إليك في نهاية كل يوم، ألوذ بصمتك ودفئك، أطرق بابك بفرح، وحين أنسى علاقة المفاتيح في مكان ما تفتح لي، وبمجرد أن تستقبلني في حضنك تتبخر كل آلام يومي، أنت وسادة ناعمة أغفو عليها مطمئنا هانئًا.
كم أفتقدك اليوم أيها الغالي بعد أن صرت بعيدًا جدًا عنك، لا شيء يجمع بيني وبينك سوى علاقة المفاتيح!
أعرف أنك بخير، لم تصب بأدنى أذى، سلمت من شظايا القذائف، ونجوت من هول البراميل المتفجرة، حين كنا معا كنت أشعر بخوف شديد عليك، كنت أدعو الله في كل لحظة أن يحفظك ويحميك، وبعد أن افترقنا أدرك تمامًا مدى الوحشة والقهر الذي تعانيه، لقد اغتصبوك أيها الغالي، ولم أستطع فعل شيء..!
وصلتني صور كثيرة تثبت ذلك، صور تظهر أنك مازلت صامدًا، تشرق شمس النهار عليك، وتبدو رائعًا في الليل بصحبة ضوء القمر، كم تبدو أزهار الربيع التي بدأت تتفتح في حديقتك مدهشة! آه لو تعلم كم من الأزهار دفنت في قلبي قبل أن تولد!
في بعدي عنك لم أعد أشعر بأنني بخير، لقد سرقوا كل ما فيك، كما سرقوا مني النوم الهانئ، وضحكة الصباح وأنا أشرب القهوة في شرفتك وأسبح الله على سطحك المطل على أشجار الزيتون دائمة الخضرة الوقوف، التي اتفقت سلفًا على المسافات التي تفصلها عن بعضها البعض.
أما أنا وأنت، فبعد أن كنا متلاصقين تقريبًا، صرنا بعيدين إلى أقصى مسافة يفترضها خيالك،
بيني وبينك أقل من 50 كيلومترًا، هذا القياس صحيح ودقيق في علم المسافة، وعلى خرائط جوجل، لكن شوقي إليك يجعل تلك المسافة كأنها أطول رقم في العالم، رقم لا تنتهي أصفاره، كما لا تنتهي ذكرياتي معك.
أتذكر يوم اشتريت أرضك، كانت فرحتي لا توصف، شعرت يومها أن تعب سنوات طويلة تكلل بنجاح كبير حين صار عندي أرض ثمنها ربما مليون ساعة من العمل الشاق، أما جدرانك فقد بنيتُ بعض أحجارها برفقة عمال البناء، كما اقترحت عليهم أماكن النوافذ، ومساحة الشرفات، وبحثت عبر الإنترنت عن زخرفات تناسب قنطرة بابك الرئيس، وعن نوع الورود والأزهار المناسبة لحديقتك لتغدو أكثر جمالاً.
لاحقًا ألبست جدرانك ألوانًا زاهية، واخترت لنوافذاك ستائر بلون قوس قزح، كنت أرغب أن تكون سعيدًا بكل شيء فيك، أثاثك الجميل، الأضواء المنبعثة من أسقف الغرف، حتى مقابض الأبواب كان لها دور في إتمام حسنك.
كنت رائعًا وستبقى، صحيح أنك لم تصب بأذى، وبيوت لا تحصى تهدمت فوق رؤوس أصحابها، لكنك اليوم كالجسد بلا لباس، ترجف بردًا وهم ينزعون عنك كل شيء فيك، لقد سرقوا نبضك وذكرياتك حتى أسلاك الكهرباء والمغاسل والسيراميك، السارقون يسميهم البعض (حماة الديار)، كنهم بلا قلب وبلا أخلاق، نبشوا قبور الشهداء وأحرقوها، لا حرمة عندهم ولا ذمة ولا دين، دخلوا إليك فدنسوك، لم يبقَ منك شيء سوى الحجر، ولو استطاعوا فصل أحجارك عن بعضها البعض لفعلوا!!
كم تمنيت لو أنني أستطيع حملك ولو على ظهري، كنت أعيش فيك واليوم تعيش في داخلي، أتخيلك في كل البيوت التي آوي إليها، بعد أشهر من نزوحي عنك مجبرًا، دخلت أكثر من سبع بيوت لأصدقاء وغرباء، ونمت في أكثر من عشرة أماكن، نامت عيني ولم ينم قلبي الذي مازال يتمناك.
بيتي الحبيب الغالي ربما نلتقي وربما لا، لكن ستبقى معي، ففي جوالي صورك حاضرة بلمسة، وأشواقي لك تعبر عنها دمعة، وأجمل ذكرى تجمعني معك صلواتي في كل ركن فيك، وإني أثق بأن صوت دعائي ما يزال يصل إليك.