د. رغداء زيدان |
تمهيد
لعل أصدق وصف لسورية بحدودها التي نعرفها هو ما قدمه الدكتور نزيه الأيوبي حين قال: “إن دولة سورية كما هي معروفة اليوم لا تزيد في بعض الأشكال عن كونها دولة راسبة (فضالة دولة) لما بقي من سورية الطبيعية السابقة”([i]). فالتقسيم واقتطاع أجزاء من البلاد، وإعادة رسم حدودها خلال القرن العشرين نتيجة السياسات والتفاهمات الاستعمارية، بالإضافة إلى ظروف وأخطاء جعلت مما كان مرفوضاً ومستهجناً أمراً واقعاً، بل وجد من يدافع عنه، ويقدم له المبررات المختلفة ويطالب به، هو ما أوجد سورية التي نعرفها، أو بالأحرى هو ما رسم تلك الخريطة التي ما زالت حتى اليوم غير محصنة من التعديل حسب المصالح الدولية.
ورغم أن الموقف المعلن من قبل القوى السياسة المحلية والدولية يؤكد على الحرص على وحدة سورية وعدم تقسيمها، إلا أنه جراء الحرب المستمرة منذ تسع سنوات تواجه البلاد خطر التقسيم وإعادة رسم الحدود من جديد، وهناك من يروج لسيناريوهات تقسيم بمسميات مختلفة، مبرراً ذلك تارة بالرغبة بإقامة وطن ديمقراطي فيدرالي لكل السوريين([ii])، وتارة بأن سورية مقسمة فعلاً إلى مناطق نفوذ، وهذا قد يتحول إلى واقع مستدام([iii]).
قد لا يستطيع السوريون بسبب ضعفهم حالياً وعدم امتلاكهم القدرة على اتخاذ القرار فيما يخص مستقبلهم، مقاومة أي سيناريو تقسيم قد يُفرض عليهم من قبل الدول الفاعلة في الملف السوري، خاصة بعدما أصاب بلادهم من تدمير واحتلال وتهجير، لكن في حال بقيت سورية موحدة أو لم تبقَ؛ فإن السوريين بحاجة لمعرفة كيف تشكلت بلادهم التي يعيشون فيها اليوم، والتي جمعتهم قروناً رغم تبايناتهم وتنوع أعراقهم ودياناتهم ومذاهبهم، لأن ذلك سيساعدهم على بناء عقدهم الاجتماعي الذي لم يكتمل حتى الآن، والذي دمر الاستبداد الأسدي ما بُني منه بسياساته العنفية والطائفية النفعية، لأن هذا العقد الاجتماعي هو ما سيؤسس لدولة لم تسنح للسوريين حتى الآن فرصة حقيقة لبنائها على أسس صحيحة متينة جامعة، لكن هناك من يقدم اليوم سرديات حول تشكل سورية كدولة، ويتحدث عن توافقات حصلت بين أقاليم كانت موجودة كدول مستقلة زمن الانتداب الفرنسي قوّت مركز الدولة، ولولا تلك التوافقات لما كانت الدولة السورية قائمة برأيه([iv]). بالطبع يمكن الرد على هذه السردية وتفنيدها بسهولة، وذلك بالرجوع لكتب التاريخ التي وثقت كيفية تشكل الخريطة السورية، وهو ما سيأتي بيانه في هذا البحث، لكن يجب الانتباه أنه سواء كانت السردية المذكورة نتاج عدم الاطلاع الكافي على مصادر التاريخ، أو نتيجة قراءته قراءة خاصة بسبب الرغبة بتثبيت منطلق يمكن البناء عليه في المستقبل لتنظيم علاقة المكونات السورية مع بعضها، أم وُجدت لأسباب أخرى مختلفة تتعلق بالرغبة بالتبرؤ من أفعال الاستبداد الأسدي واستغلاله للسوريين بكافة طوائفهم وخاصة العلويين منهم لتحقيق مصالحه؛ فإن هناك ضرورة حقيقة لمعرفة السردية الصحيحة الموثقة لتشكل سورية، لأن هذا سيساعدنا كسوريين على فهم صحيح للإمكانات المتاحة أمامنا لبناء العقد الاجتماعي المطلوب لتأسيس دولة مواطنة وقانون قادرة على جمع السوريين بكافة مكوناتهم العرقية والطائفية، خاصة بعد سنوات حرب قاتلة، سببَّها وأشعلها استبداد بغيض جثم على صدور السوريين عقوداً طويلة.
سيقدم البحث خطاً زمنياً يبين التغيرات التي طرأت على خريطة سورية، منذ نهاية القرن التاسع عشر حتى اليوم، كما سيقدم بعض التحليلات لمواقف سُجّلت، وكان لها أثر في رسم خريطة البلاد، وفي إيجاد الدولة السورية الحالية، وذلك من خلال الرجوع لمصادر تاريخية موثقة حول الموضوع، تشرح تلك التغيرات، وتبين حقائق غائبة أو مغيبة، أجد من الضروري الانتباه لها والتذكير بها.
…
لقراءة البحث كاملاً أو تحميله يرجى الضغط على صورة الغلاف
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[i] ـ نزيه نصيف الأيوبي، تضخيم الدولة العربية السياسة والمجتمع في الشرق الأوسط، ترجمة أمجد حسن، بيروت، المنظمة العربية للترجمة، ط1، 2010، 244.
[ii] ـ عندما صرح وزير الخارجية الأمريكي السابق “جون كيري” أمام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ في فبراير/ شباط 2016 قائلاً: إنه في حال فشل “اتفاق وقف الأعمال العدائية في سورية، والانتقال السياسي الذي أقرته الأمم المتحدة، فإننا قد نتخذ موقفاً أكثر شراسة بما فيها تقسيم سورية”، ومن وقتها بات الحديث عن تقسيم البلاد يتكرر كثيراً. ثم جاءت بعد وقت قصير تصريحات نائب وزير الخارجية الروسي “سيرغي ريابكوف” عن جمهورية فيدرالية في سورية لتشعل النقاشات حول إمكانية تحقيق مثل هذه الفيدرالية من عدمها، وكان الأكراد أكثر من تقبل هذه الفكرة، وتبناها قسم منهم وأعلنت “الإدارة الذاتية” في 16/3/ 2016 ما أسمته “المجلس التأسيسي للاتحاد الفيدرالي الديمقراطي لروج آفا/ شمال سوريا”. انظر: رغداء زيدان، الفيدرالية وصفة تتجاهل الواقع في سورية، السورية نت، 15/ 3/ 2016، على الرابط: https://cutt.us/RB9if. وانظر: “الإدارة الذاتية” تعلن الفيدرالية رسمياً في شمال سورية، زمان الوصل، على الرابط: https://cutt.us/eIbFm.
[iii] ـ انظر: تقسيم سورية إلى مناطق نفوذ تم رغم كل شيء، موقع روسيا RT، 23/3/ 2020، على الرابط: https://cutt.us/3PHoWÇ
[iv] ـ نشر السيد عيسى إبراهيم قبل أيام النص الأصلي لمحضر اجتماع مجموعة من “المؤثرين العلويين”، مع الجانب الروسي، لبحث الأوضاع في سورية، وجاء في هذا المحضر قوله: “نشأت سورية الحالية المعروفة بحدودها عبر اتفاق بين الأقاليم السورية المكونة في حينه والتي كانت دولاً مستقلة في ظل الانتداب للبدء بدولة مركزية عاصمتها دمشق. وبالتالي قوة المركز في هذه الجمهورية يأتي من خلال هذه التوافقات، حيث تفاوضت النخب السورية حينها ممثلة بالآباء المؤسسين على الاستقلال عن فرنسا، والانطلاق من ميثاق وطني غير معلن يعكس الهياكل الاجتماعية الثقافية المتنوعة، وقد مكن ذلك الهوية الوطنية والشعور بالوطنية في الجمهورية الجديدة نسبياً”. انظر: “المؤثرين العلويين” يكشفون عن النسخة الأصلية لمحضر اجتماعهم مع الروس وأبرز نقاطها، موقع ستيب نيوز، 26/ 6/ 2020، على الرابط: https://cutt.us/TkHyV.