بقلم جاد الحق
القرآن الكريم بروعة بيانه، و متانة بنيانه، و دقة ألفاظه، و سمو معانيه، لا تقتصر إعجازاته على المستويات البلاغية و العلمية و التاريخية فقط، بل تتعداها إلى السياسية أيضا، فالقرآن قدم لنا نماذج سياسية نراها اليوم تتكرر في حياتنا لمرحلة التطابق بين التصوير القرآني والواقع السياسي، فمثلا بالصراعات التي تجري بين الدعوات الإصلاحية كالثورات وبين محاربي الإصلاح وأعدائه كالأنظمة الفاسدة والانبطاحيين من الشعوب، أو للتبسيط نقول الصراعات التي تجري بين أي حق وباطل، عرض لنا القرآن عدة سيناريوهات لسير القضية منها:
1) في قصة ابني آدم، حين قربا قربانا، فتقبل من أحدهما، ولم يتقبل من الآخر، ملأ الحسد و الحقد صدر الابن المفسد، فقال لأخيه الصالح: لأقتلنك، لاحظ أنَّه مباشرة قرر اللجوء للقتل، مع أخذ العلم أنَّ عدد البشر في ذاك الوقت لم يتجاوز العشرة أشخاص، و أنَّ الكرة الأرضية لا زالت بكرا بخيراتها، و لو أنَّ أحدهما مشى مسافة 1 كيلو متر لانتهت القضية، لكنَّها رسالة إلهية أَّن الكرة الأرضية على اتساعها، وبذروة خيرها، لن تتسع للحق والباطل سوية، فإمَّا حق وإمَّا باطل، فما بالك لمن يريد جمع النقيضين في وطن واحد، أو تحت قبة برلمان!
2) إبراهيم u، حاجج قومه بالبراهين العقلية ليهديهم سواء السبيل، فحطم أصنامهم، وترك الفأس في رقبة صنمهم الأكبر، فكان أن وجه لمعتقداتهم وعقولهم و تراثهم صفعة أدبية قوية، فلما رأوا المشهد الذي أعده لهم إبراهيم u { قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ، قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ } ، أرادوا أن يحطوا من شأن إبراهيم u ، فرموه بهتانا بعدم النضوج، وترفعوا عن الإشارة إليه بشكل مباشر، ثم قالوا { حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ } حرّقوه و لم يقولوا احرقوه، للدلالة على المبالغة نتيجة الغيظ الذي جرعهم إياه إبراهيمu، حتى فاض منهم نارا تلظى، فكانت النتيجة أن قال الله بالقرآن { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً } إبراهيم وحده أمة، وجعل نارهم عليه بردا وسلاما، وأخرج من نسله المبارك محمد r، فالعبرة السياسية المستفادة، أنَّ كلَّ صاحب دعوة إصلاحية سيلقى من سفهاء الناس التحقير والاستنكار، وسيسعى أرباب الباطل لحرق المصلح على كافة الأصعدة، حتى يحرقوا دعوته معه.
3) أرسل لوط عليه u إلى قومه الشاذين المفسدين، بالطهر والعفاف والتوحيد، اعتبروا دعوته مسبة بحقهم، فالداعر يغيظه رؤية الملتزم، لأنَّه يشعره بنقصه ودونيته، كما أنَّ العبد الذي ألِف الذل والخنوع يقتله رؤية الحر الذي يأبى الهوان، فلذلك قرر قوم لوط أن يخرجوا لوطا وأهله من قريتهم بتهمة تثير العجب { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ ۖ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} ، نعم تهمتهم أنَّهم يتطهرون، كيف يتطهرون بيننا معشر الأنجاس القذرين؟! إنَّهم هكذا يحرجوننا، فصاحب كل دعوة للخير، دائما متهم بجريمة عظمى، هي أنَّه يريد الخير في مجتمع عائم على بحر من الإفساد والرزيلة.
4) فرعون، المعين الذي يرد منه كل طغاة العالم، فرعون كان يطبق سياسة فرق تسد، حيث وصفه القرآن بأنَّه كان يقسم المجتمع الواحد لشيع وطبقات، فيظل التناحر والحقد بين المجتمع، و بالتالي تظل السلطة الفاسدة موجودة { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ }، حين أرسل الله موسى و هارون عليهما الصلاة و السلام لفرعون، و عرضا الدعوة والمعجزات عليه، لجأ فرعون إلى حرف الموضوع عن مساره، و شخصنة القضية عبر إحراج موسى بشخصه، فذكّره كيف ربوه في قصر فرعون، و كيف أنَّه مطلوب جنائي للنظام الفرعوني { قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ(18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ(19) }، ولم يكتفِ فرعون بذلك، بل طلب من شعبه تفويض ليقتل موسى u لأنَّه يثير فتنة طائفية، وعميل لجهات خارجية تريد الفساد بالبلد { وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَىٰ وَلْيَدْعُ رَبَّهُ ۖ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ }، الطريف بالموضوع أنَّ فرعون الجبار، يحتاج لتهيئة الرأي العام عنده قبل إصدار قرار بقتل موسى u، و طبعا كانت النتيجة إغراق فرعون وجنده، و عمت العقوبة على قوم فرعون لأنَّهم أطاعوه، و تعميم عقوبة الله على كل شعب مطيع لفرعونه سنة كونية ثابتة، و نبهنا الله أنَّهم لم يطيعوه خوفا ولا رهبا، بل أطاعوه لأنَّهم فاسقين، { فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ }.
هذا غيض من فيض عن النماذج السياسية التي نراها بحياتنا كل يوم، وقد ذكرها الله لنا في القرآن، حتى نستبين سبيل المجرمين فلا نتبعها.