عبدالغني الأحمد
واأخياه ..
لن أناديك إلا بها، فتسعون عاماً من الحدود المصطنعة والوطنية المقيتة، لم تُنسنِ تلك الأخوة، أوَ لم يقل رب البرية: إنَّما المؤمنون إخوة؟! أوَ لم يقل خير الأنام: إنَّنا كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد؟!
ها أنا يا أخي لست أتداعى فقط، بل أتزلزل بكلِّ ما تعنيه الكلمة من معنى، ولم أجد غيرك لأختبئ بكنفه، وإنِّي قد وجدتك مُرحباً فيَّ، وبادلتني المصافحة بلحظة عناق كانت أبلغ لي من لغتك الغريبة عني التي لم أعرفها من قبل، لكن العيون كانت أفصح، ففيها لمحتُ كلَّ الحبِّ، ولن أنكر لك ذلك الجميل ما حييت، ولقد كنت سأعتبر حُسن ضيافتك هذه واجباً عليك بما أنَّنا مسلمون وحق عليك مساعدتي ، لكن لما وجدت إخواني يُذلون في بلاد ظنناها أقرب إلينا منكم عندما كانت القومية كما علَّمونا في المدارس أكبر بكثير من رابطة الدين ، ويعاملونهم بعنصرية، وينظرون إليهم نظرة إهانة وذل من قِبل البعض، وجب عليَّ أن أشكرك.
عندما وجدت بلاد العرب والمسلمين التي أفاء عليها الله بالمال الوفير والثروة الضخمة تغلق أبوابها عليَّ، وتمنعني من تأشيرة الدخول إلى بلاد رسول الله، وجب عليَّ أن أشكرك مرة أخرى.
تخيل يا أخي التركي مَن أبعدوني عنك تسعين عاماً بأعرافهم علموني بأنَّه يجب ألَّا نلتقي سوية، كيف نلتقي وأنت لا تعرف الضاد؟! تخيل أنِّي لم أستطع أن أزور الخليج العربي، ولا بحر العرب، ولم أرَ شيئاً من خضار تونس، ولم أذق بَلح الجزيرة، تخيل أنَّ من أمضوا سنيناً يحشون في عقولنا عبارة “العرب إخوة” منعونا من التجول في أراضيهم، فالإمارات لم تمنحني تأشيرة دخول؛ لأنِّي فقير ولا أملك المال للاستثمار .. والكويت يرى بعض ساستها أنِّي مريض نفسياً، وأم الدنيا مصر أغلقت بابها, والبحرين وقطر وعمان والجزائر ووووو كلهم لا يريدون استقبالي.
أنا السوري ابن شام الحضارة التي نثرت خيرها وفضلها على كلِّ الأمم من عرب وعجم، أنا العز بن عبد السلام خطيب الأموي، محرّض المسلمين على قتال المغول، أنا أبو فراس الحمداني صاحب الشعر والبيان، أنا علي الطنطاوي فقيه الأدباء وأديب الفقهاء، أنا عبد الرحمن الكواكبي وقفت بوجه كل ظالم، أنا حمزة الخطيب الطفل الذي خرج على طاغية العصر، تخيل -يرعاك الله- أنَّهم أغلقوا أبوابهم في وجهي، وذُلّ في أرضهم أهلي، لذلك كنت بين خيارين: إمَّا أن آتي إليك، وإما أن أهاجر إلى بلاد الكفر كما يقولون، البلاد التي فتحت أبوابها لنا واضطررنا أن نهرب إليها مجتازين البحار وخطرها عندما كانت مكة أقرب.
لكنِّي أخترت المجيء إليك؛ لأنَّ صوت الأذان يشجيني، والمآذن الشاهقة تسحرني، ولأنِّي أرجو منك شيئاً أيُّها التركي “الأجنبي” أخبرهم أنَّنا لم نكن عالة عليكم، أخبرهم بأنَّنا نوصل النهار بالليل لنعود بلقمة حلال إلى أولادنا، حدثهم عن عزة نفسنا وعن حُسنِ جوارنا، أخبرهم بأنَّنا لم نطلب منكم ليرةً واحدة ..
أرجوك حدثهم عن أمانتنا علَهم يتذكرون أنَّنا نحن أبناء الشام ورثنا العزة من أجدادنا ولم نفرط بهذا الإرث أبداً، ذكرهم بأنَّ الأيام دول، ذكرهم بالأندلس التي ضاعت منهم بعد ترف وبزخ علّهم يوقنون بأنَّ دوام الحال من المحال.
أخيراً: لا تكن مثلهم، لأنَّهم خسروا بركة أهل الشام، ولا تجعلني مرة أخرى ضحية لعبة سياسية هربت منها إلى هنا فظلت تلاحقني كلعنةٍ، فأنا لم أجبر جيشك على القتال في مكان، وانظر إلى ساستك فإنَّ الأمر بينهم وبين الكبار، واعلم أنَّها لعبة كبرى فلا تحملني وزرها، وإنِّي وإياك في الهواء سواء.