في رمضان نقلِّب الأفكار لكي نتعلم جديدًا في كل عام، هذا الشهر لم يكن يومًا ما أو طقسًا تعبديًّا فحسب، إنما كان ومايزال فكرة متجددة يمارسها الصائمون بطريقة واحدة وبفهم مختلف ومتنوع.
كان التغيير فكرة جاء بها الإسلام إلى مجتمعه بدايةً وإلى بقية العالم بعد ذلك، ولم يكن تغييرًا هدميًّا، أزاح مجتمعًا كاملاً ليستبدله بآخر، إنما كان تغييرًا تشكيليًّا أعاد فيه موضَعة القيم في المجتمع ورمّمها، وأزال ما يتنافى مع آدمية الإنسان وسمو الرسالة السماوية التي حملها الإسلام.
لم يُفرض صوم رمضان بدايةً، بل تأخّر حوالي أربع عشرة سنة تقريباً من البعثة النبوية، ليبدأ حالةً تجديدية في المجتمع المسلم، فالصوم امتناع عن المباحات لا عن المحرمات، تغيير لما تعوّد عليه الجسد من الطعام والشراب، وحضٌّ على تغيير السلوك إلى الأفضل، وكبحٌ لجماح الشهوات والغرائز وتربيتها، كأنه تأخّر ليكون مرحلة أخرى من الالتزام والإرادة بعد أن تمكّن الدين من قلوب المسلمين الأوائل، جاء بعد أن استقرت لهم المدينة لكي يبعث فيهم روح العمل ويطلب منهم المزيد تجاه أنفسهم ومجتمعهم، يطلب منهم ألَّا يركنوا للاستقرار فقط حتى لا تذبل الروح وتعتاد العبادة. فكان عبادةَ عمل.
كان الصوم تغييرًا لنمط الحياة ماديًّا بالشكل الظاهري، فتتأثر الجوارح، ويزداد إقبالها على الجانب الروحي الذي تستعين به على صيامها، ويتغير السلوك الذي هو المطلب الأساس في الصيام، ففي الحديث الصحيح “من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه”. فالصيام هو طلب سنوي لإعادة محاسبة النفس والعمل على تغييرها تطبيقًا وليس قولاً فقط، فمن ترك المباحات طلبًا لرضى الله، فهو في ترك الموبقات والمعاصي أشد التزامًا وتمسكًا، وإلا فلا غاية من الصيام.
لقد حافظ الصوم على طاقة الإرادة لدى المسلم، هذه الإرادة التي يغير بها سلوكه وحاجاته ثلاثين يوماً كل عام، فلا تكاد تفتر من هموم الدنيا، حتى يأتيه الصيام منشطًا ومجددًا لغايات الالتزام الحقيقي بالقيم والمبادئ التي جاء بها الإسلام، أما إذا انغمس في العمل ومتاعبه والدنيا وشهواتها جاءه الصيام مفرملاً، يوقف هذا التسارع والانغماس ليعيد ضبط إيقاع حياته من جديد، والصيام إرادة خالصة عند الصائم بذاته، إنها إرادة التغيير التي تنبع من داخل الإنسان بكامل قناعته وإصراره، فالصيام عبادة سرية بين العبد وربه، لا يستطيع أحد من الناس الاطلاع على حقيقتها إلا هو.
“فإذا كان يوم صوم أحدكم، فلا يرفث يومئذ ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله، فليقل: إني امرؤ صائم”
المدير العام | أحمد وديع العبسي