صهيب إنطكلي |
في عام (1845) تم نشر حكاية خيالية بامتياز للكاتب الدنماركي (هانز أندرسون) وهو الذي اشتُهر بخياله الخصب، إنّها حكاية (بائعة الكبريت) التي أثارت مشاعرَ كلّ من قرأها وانتشرت انتشارًا واسعًا.
لقد استحضرت هذه الحكاية على روحي حكاية تشبهها، ولكنها ليست من نسج الخيال، إنها من وحيِ واقعِنا المتألّم بِنا، يحياه أطفال وطني في ظلّ ظلم نظام دأب على قتلهم وأمهاتهم ليكون أشد من فرعون مصر، وخذلان عالم أصمّ، أبكم، أعمى عن نصرة حق أبلج، ولو قُدِر للكاتب أن يعاصر ثورتنا لما اضطر إلى إعمال خياله؛ ففي قصص عذاباتنا ما يعلو الخيال.
إنّها حكاية (روان العلي) الطفلة الّتي لم تبلغ من الأعوامَ العشر، هجَّرَ النظام عائلتها مع مئات العائلات من ريف حمص الشمالي إثر إعادة احتلاله، إنها أكبر أخواتها.
تخرجُ روان كلّ صباحٍ من الخيمةِ الّتي تسكنُها؛ وفصل الشتاء الحزين يلفّها بالزمهرير، تكادُ رؤوس أصابع يديها تتجمد، تتذكر وصية أمّها: “حركّي أصابع إيديكِ باستمرار وانفخي في كفّيكِ وبتدفي إن شاء الله” (جزمتها) الحمراء الطويلة التي تلبسُها دون جوارب لا تقيها البرد، إنّها فقط تمنع تسرب الماء والطين إلى قدمَيها الناعمتين، تمشي روان ببطءٍ، يقوم الطين الأحمر بدور الفرامل لِخطواتها، تغادر المخيم وهي تحمل بسكويتها الرخيص، حبات المطر الكبيرة تتساقط فوق رأسها العاري، المعطف المهترئ الذي ترتديه، كبير جدًا عليها، تحاول دائما أن تُظهر يدَيها، ولكنه لا يحميها من الزمهرير، تمشي على قدميها في شوارع مدينة الأتارب القريبة في ريف حلب الغربي، تقف قُبالة واجهات المحلات وكأنها تتوسل أحدًا أن يشتري منها، هي لا توفر أيّ طريقة لبيع بسكويتها، حتى لو اضطرت لإحراج أحدهم، ما يهمّها أن تعود إلى خيمتها مساء تحمل بعض المئات من الليرات تعطيها لأمها وكأنها حقّقت نصرًا عظيمًا، بعد ساعاتٍ من التجوال ينهكها الجوع، تنظر إلى الدّجاج المشوي الذي يتصدر واجهات المحلات وتحلمُ به، تغادره إلى محلّ (الفلافلِ) القريب، تقف على زاوية المحل، 200 ليرة ثمن لفافة ستضيع كل جهد يومها في بيع البسكويت، ولكنّ العم حسن صاحب المحل يقرأ جوع الطفلة من عينيها، فيلفّ لها لفافة حين رؤيتها.
مرّت الأيام وشوارع ومحلات الأتارب حفظتْ روان، لقد أصبحت الطفلة وبسكويتها من المألوفات هناك، لم يكن أغلب الناس يعرفُ اسمها، ولكنّهم لقّبوها بمهنتها: (بائعة البسكويت).
إنها مثال لمئات الآلاف من الأطفال الذين هجّرهم النظامُ مع عائلاتهم؛ ففقدوا كلّ مقومات الطفولة الطبيعية، فلا لعب ولا تعلَّم ولا بيتا يؤويهم، ولا رعاية صحية لائقة.
لقد صحتِ الأتارب مؤخرًا على الخبر الحزين، روان لن تمشي في الشوارع بعدَ اليوم، ولن تبيع البسكويت، من المؤكد أنّها ستكون بخير، وهي الطفلة التي لم تبلغِ الحلم بعدُ.. ماتت روان إثر حادثِ سير أليم، ماتت وهي تسعى على رزقِ أهلِها … وبقيت قصّتها مع مئات الآلاف من أطفالنا تقرعُ الضمير الإنساني.. وما مِن مُجيب!