ونتابع مع الجزء الثاني من كتاب سنوات الظلام الذي يتحدث عن الأحداث الرهيبة التي عصفت بحكومة وشعب فرنسا بداية الحرب العالمية الثانية سنة 1940.
كان حلفاء فرنسا البريطانيون الذين جاءوا إليها بجيوشهم في منطقة النورماندي شمال فرنسا قد رأوا الانهيار مبكرًا وقرروا الانسحاب من المعركة وترك فرنسا تواجه العاصفة وتقرر لنفسها ما ترى، وعندما عبرت القوات الألمانية نهر اللوار والطريق إلى باريس مفتوح كان مجموع خسائر فرنسا من البشر مليون وربع المليون قتيل ومليون ونصف المليون أسير و ثمانية ملايين مواطن فرنسي تحولوا إلى لاجئين، فمدينة مثل شارتر لم يعد فيها غير 800 مواطن، في حين تعدادها الأصلي ثلاثة وعشرون ألفًا، ثم إن قرية مثل بوسيلانج هرب سكانها ولم يتبقَ منهم غير عائلة واحدة ما لبث أفرادها جميعًا وعددهم خمسة أن قرروا الانتحار جماعيًّا قبل أن تداهمهم القوات الألمانية.
ومساء يوم 25 أيار قام المارشال موريس جاملان القائد العام للجيش الفرنسي بإبلاغ الحكومة في باريس رسميًّا بأن عليها أن تجد وسيلة لوقف القتال والتوصل إلى هدنة مع الألمان، لكن الحكومة قامت بعزل المارشال جاملان وعينت مكانه المارشال مكسيم ويجاند وحاول القائد العام الجديد أن ينقذ الموقف لكنه يوم 12 حزيران حل عليه الدور لكي يطلب من الحكومة أن تجد وسيلة لوقف القتال والتوصل إلى هدنة مع الألمان، وأكثر من ذلك فإن المارشال ويجاند وجه إلى رئيس الوزراء تحذيراً قال فيه: “إن التوصل إلى اتفاق بأي شكل مع الألمان لابد أن يتم بسرعة وقبل أن تنفرط الجيوش الفرنسية وتذوب في فوضى الهزيمة، ثم لا تجد الحكومة في باريس أي قوات تحمي بها الداخل الفرنسي من حركة شيوعية تحاول استغلال الكارثة وتستولي على السلطة”.
كانت باريس تعيش أقسى الساعات في تاريخها الحافل، فالعاصمة كانت منقسمة بين الذين يرون استمرار مقاومة فرنسا حتى من خارج التراب الفرنسي كله وبالتحديد من المستعمرات في شمال أفريقيا (تونس والجزائر ومراكش) وبين الذين يرون أن الواقعية لا بد لها الآن أن تسود وأنه ليس أمام فرنسا غير أن تسأل الألمان عن شروطهم لوقف القتال، فالحرب انتهت عمليًّا بانتصار الألمان ليس على فرنسا فقط إنما على بريطانيا أيضا؛ لأن فلول الجيوش البريطانية التي انسحبت من فرنسا تحت النار في منطقة دنكرك أفلتت محطمة الأعصاب تاركة أسلحتها الثقيلة غنيمة لقوات الجنرال جورديان التي طاردتها وطردتها من نورماندي والنتيجة أن الجزر البريطانية نفسها سوف تصبح مكشوفة أمام غزو ألماني عبر بحر الشمال لأنّ بريطانيا ببساطة لا تستطيع في أيام ولا أسابيع ولا شهور أن تُعِدَّ دفاعات عن شواطئها تقدر على الصمود.
كان الشعب الفرنسي في حالة ذهول مما حل به فقد انقضّت عليه عاصفة الحرب وهو يعيش أزمة سياسية ضاعت فيها ثقته بمؤسساته السياسية والفكرية والثقافية، والشك في النفس أخطر ما يصيب الشعوب لأنه ينزع مناعتها ويضرب إرادتها بنوع من الحيرة يصل بها الى الضياع.
إقرأ أيضاً: سنوات الظلام فرنسا 1940- 1944.. (1)
وفي تلك اللحظات المثقلة بالهم تقرر دعوة المارشال بيتان الذي كان يعمل سفيرًا لدى إسبانيا كي يعود بسرعة لعل لديه دواء لعلل فرنسا وهو البطل الذي حقق لها النصر في الحرب العالمية السابقة (1914-1918) لكن المارشال الذي استُدعي على عجل ترك آخر جذوة في أسطورته تنطفئ بدعوة أن ساسة فرنسا تخلوا عن القيم والأخلاق والمثل العليا التي قام عليها تماسك فرنسا، وهكذا فإن بيتان بطل الحرب كان الرجل الذي طلب من الألمان شروط السلم، ويوم 21 حزيران قدم الألمان شروطهم لمبعوث خاص بعث به المارشال بيتان الذي تسلم رئاسة الوزارة من بول رينو قبلها بأيام، والغريب أن القائد الألماني المارشال فون رون رونشتيلد قدّم تلك الشروط لمبعوث بيتان وهو الجنرال هونتزيجر في عربة قطار سُحِبت من محطة كومبين وكانت نفس العربة إلى نفس المحطة التي وقعت فيها ألمانيا شروط الاستسلام في الحرب العالمية الأولى قبل 22 سنة.
وكانت شروط الألمان كما يلي:
- يتم تقسيم فرنسا بالعرض إلى منطقتين: في الشمال منطقة احتلال ألماني فيها باريس ومنطقة في الجنوب تقوم فيها دولة فرنسية مستقلة تختار لنفسها عاصمة حسب ما ترى سلطاتها.
- الدولة الفرنسية تباشر تسريح جيشها وتحتفظ بقوة أمن لا يزيد تعداد أفرادها عن مئة ألف رجل.
- الأسرى الفرنسيون لدى الجيش الألماني (مليون ونصف المليون) يبقون في الأسر حتى تنتهي الحرب العالمية وتوقع معاهدة الصلح بين جميع الأطراف، وبعد شهور قليلة كان نصف هؤلاء الأسرى “ثمانمائة ألف” عمال سخرة في خدمة الإنتاج الحربي الألماني.
- تتكفل الحكومة الفرنسية بدفع تكاليف وتتحمل نفقات الجيش الألماني في منطقة الاحتلال (شمال فرنسا وفيها باريس).
ووافقت فرنسا، وكان البند الوحيد المعلق قبل وقف القتال هو الاتفاق على المبلغ المقدر لتكاليف ونفقات جيش الاحتلال الفرنسي.
ولساعات دارت مساومات، وعرض المفاوض الفرنسي دفع مبلغ عشرين مليون فرنك يوميًّا، لكن المفاوض الألماني لم يكن لديه وقت لطول الجدل كما أن المفاوض الفرنسي كان يشعر دقيقة بعد دقيقة أن الأرض تقع من تحته والسقف يهوي منقضًّا عليه، وهكذا تم الاتفاق على أن تتعهد فرنسا بأن تدفع تكاليف ونفقات جيس الاحتلال الألماني وتقدر بـ 400 مليون فرنك كل يوم.
وتستوقف النظر وتستدعي التأمل مجموعة الإجراءات التي بدأ بها المارشال بيتان حكمه لفرنسا ومؤلف الكتاب يوردها في الصفحة 154 من كتابه:
- طلب وحصل على تفويض دستوري جعل سلطته في فرنسا أقوى من السلطة التي كانت بيد الملك لويس الرابع عشر عندما كان يلقب بالملك الشمس وعندما قال قولته المأثورة يوما ما: (أنا الدولة).
- قرر تغيير النشيد الوطني إلى نشيد آخر مختلف عند نشيد (إلى السلاح أيها المواطنون) لأن النشيد القديم فيه تحريض على الحرب.
- وجه نداءً إلى الأمة الفرنسية لتعود إلى أيام كانت العائلة فيها أساس المجتمع ورابط علاقاته ومحدد كل منها.
- أُشير عليه بوضع رسم يوضح صورة جانبية له محل وجه (ماريان) التي كانت بشبابها ترمز إلى حيوية الثورة الفرنسية.
- وافق على كتابة شعارات الثورة عن الحرية والإخاء والمساواة فوق كل المراسيم والقوانين والتنظيمات التي وضعتها حكومة فيشي مع أن الإجراءات كلها تكاد توحي بأنه نظام ملكي يتخفى وراء شارات ثورية.
1 تعليق
Pingback: سنوات الظلام فرنسا 1940- 1944.. (3) | صحيفة حبر