لكل مقام موسيقي سُلَّم يتألف منه بدرجاته المختلفة الأبعاد، وعازفون ومغنون يؤدونه، وحضور يستمعون إلى الأداء بشكله الإبداعي، فقبل البدء بالوصلة الأولى كما هو معلوم لحفل ما لا بدَّ من التمهيد بمقطوعة موسيقية للسلطنة على النغمة، والتمهيد للدخول إلى الوصلة الأولى في الحفل، وهي بشكل عام تكون لسلطنة كلِّ عناصر العملية الإبداعية (الموسيقيين، المغني، المستمعين) وما نشاهده ونستمع إليه اليوم هو الجزء التمهيدي من حفل مؤتمر سوتشي الذي سيعقد نهاية الشهر الجاري، إذ لم يعد يخفى على أحد شكل المقدمة الدموية التي تسبق كلَّ مؤتمر يخص المسألة السورية، فقد استهلتها فرقة بوتين للحفلات بتختها الموسيقي الخاص المؤلف من الطائرات والمدافع والصواريخ.
فعزفت مقامات الموت التي باتت مألوفة السماع بالنسبة إلينا كسوريين رغم نشازها، فأغنية (طلع الموت علينا من حماة وإدلب) من مقام: (قتل كار) إيقاع: (صاروخ مظلي ثقيل) لحن (روسي قديم) غناء (فرقة الدب الروسي) رقص عليها الأطفال في ريفي حماة وإدلب رقصتهم الأخيرة، وانتحبت أمهاتهم عليهم بصوت لا تعرف مقامه كلُّ أبجديات الموسيقا العالمية مجتمعة، وصفَّق طرباً لها كلُّ من حجز تذكرة الذهاب ليشنف أذنيه بمقامات النشاز التي اعتاد على سماعها، وضرب الراح بالراح طربا، وشتانَ ما بين الطرِبين، كلُّ نازح افترش الأرض والتحف السماء وجعل برد الشتاء رداءه، وردَّدت وراء المغني فرقة الكورال التي عَرَفتْ مسبقا (النوتة) التي تحتوي على مقامات الموت والخيانة، فباتت دون أدنى شك شريك في مقامات القتل، فلا هي أخبرت البقية لمعرفتها بذلك، ولا صَدَقت بإقامة جدار يعزل صوت النشاز، وفي كلِّ يوم نستيقظ فيه نسمع عن عمليات بطولية لها من قتل لمرتزقة النظام وتدمير لآلاتهم وانسحاب آمن لأبطال العملية، وما ذلك إلا لتمرير بطولات وهمية دون استرجاع شبر واحد، والنتيجة استمرار الفرقة بالعزف والتنقل من وصلة لأخرى حتى قاربت الوصول إلى مطار أبي الظهور العسكري الذي ستنطلق منه موسيقا أزيز الطائرات التي ستستكمل قصفها وتمهيدها، عندها ستكون الجوقة التي أطربت الجميع قد قلَّصت مسافة لقائها بالقوات المتمركزة في قرية الحاضر مسافة 18 كم2 ومسافة 30 كم2 عن القوات المتمركزة في خناصر، وبالتالي حصار 300 قرية وإجبارها على سماع النغم حتى الموت، وما خفي عن مسامعنا أعظم.
إنَّ استدراك الأمر ليس بالمستحيل، فالنظام لمَّا يلتقط أنفاسه بعدُ فضلا عن تجهيز تحصينات وإقامة خطوط دفاع، لذا فإنَّ أي عملية عسكرية مضادة لاسترجاع ما فُقد تؤتي أكلها وتثمر بإذن الله، ولن يسمى الاسترجاع نصرا حتى إعادة آخر قرية والسيطرة على قرى جديدة، وإلا فإن استرجاع الجزء دون الكل هو خسارتنا للجولة، وتحقيق مآرب النظام وروسيا للضغط على رافضي سوتشي للحضور مكرهين إلى الأمسية المرتقبة.
المؤتمرات والجولات السياسية أمر لا بدَّ منه للوصول إلى ما نصبو إليه من أهداف لنترجم مكتسباتنا على الأرض أمام المجتمع الدولي، لكنها كانت، وللأسف، كما أرادها النظام وحلفاؤه لعبة كسبٍ للوقت لتنفيذ هجمات وإحراز المزيد من التقدم دون وجود رادع، فوزير خارجية النظام عبَّر عن ذلك صراحة حين قال: “مناطق خفض التصعيد أمر مؤقت حتى نستعيد كامل التراب السوري”
كلُّ واحد من المستمعين يعرف كيف ينطرب ولمن ينطرب، فبعد هذه المقدمة الموسيقية التي تمهد لسوتشي والتي شارفت على إنهاء وصلتها بتحقيق كل مقامات الإجرام، سيكون مقام الذين قطعوا تذاكر سوتشي في مزابل التاريخ لأنها منطلقهم الأساس، وسيكون مقام كل من ردد وراء الفرقة الموسيقية المجرمة وادَّعى أنه لا يعرف العزف والترديد معها في أعلى مراتب اللعن الأبدية، وسيكون مقام الثائرين الذين أحرق الثأر صدورهم في مقام الحرية الذي وضعوا سلالمه بأنفسهم وتغنوا صادقين بألحانه التي هي نشوة من ذاك الخلود السرمدي.