نادر حمامي
في الواقع هناك أشياء كثيرة يكون شبحها في مخيلتنا أكبر منها بكثير، ربما ﻷننا ننظر إلى نتائجها لو حصلت بالفعل، وهذه النتائج التي ندّعي رؤيتها قبل أن تحصل اﻷشياء نبنيها على ما رأيناه في حالات مشابهة وربما مطابقة، ليس بالضرورة أن تكون نفسها كلما حصل نفس اﻷمر ما دامت ليست ظاهرة طبيعية معروفة اﻷسباب، أو مفاهيم منطقية مسلَّم ببديهيتها، فكيف لو كانت من الحوادث التي تخص البشر الذين يختلفون من واحد ﻵخر في ثقافتهم وعاداتهم وردود أفعالهم، ويختلفون أيضاً في فهمهم للمشاكل وفي تعاملهم معها وتقبلهم إياها، وقدرتهم على حلها أو مواجهتها ؟
إننا اليوم وقد حوصرت حلب أو كادت لا سمح الله نرى شبح الحصار أكبر من الحصار نفسه؛ ﻷن كلمة الحصار تحمل في طياتها معنى من معاني الموت الذي تهابه النفس الإنسانية وتفر منه.
إلا أنَّ المؤسف في اﻷمر حقاً أن يقعد بنا خوفنا من هذا الشبح عن ملاقاته.
إننا سمعنا وقرأنا كثيراً عن كسر الحصار، فلما وقع اعتقدنا أنَّه لم يبقَ لنا إلا أن ننتظر الموت الذي سيأتي به.
لا يا سادة، إنَّ المهمة لم تكمل بعد، والكفاح ما زال في أوله، إنَّ كسر الحصار لا يعني منع وقوعه فحسب، بل يعني أيضاً ألا يكسرنا الحصار فيما لو وقع، ألا يكسر إرادتنا عن المواجهة، ألا ينال من عزيمتنا على النصر، ألا ينفع معنا كسلاح للضغط علينا، ألا ينفع مع عدونا كأداة موت لنا.
إنَّ كسره يعني ألا يموت أحد منا بسببه، وألا نكون ضحية من ضحاياه، وألا نعين الحصار على أنفسنا، أو بشكل أدق ألا نعينه على بعضنا وألا نعينه على الفقراء والضعفاء والجوعى.
إنَّ شبحه سيبدو لنا صغيراً فيما لو تخيلناه وحشاً علينا أن نهاجمه مجتمعين وسرعان ما ستتبدد وحشيته في مخيلتنا وقوته أمام توحدنا، وما دام قد كتب علينا الحصار معا فعلينا أن نتقاسمه معاً، ونكثف التواصل بيننا ونسأل عن الجياع والفقراء ونتفقد أحوال من أشرفوا على الموت قبل أن يصبحوا أرقاماً، ونمد يد العون لهم، وعلينا ألا نعتقد أن ادخار المزيد من الطعام قد ينأى بنا عن الموت جوعاً، أو أن نعتقد أنَّه لن يصل إلينا ما دمنا نقدم له أولئك الفقراء البؤساء قرابين في كل يوم، ثم ماذا لو استمر طويلا؟ ألن يصبح جميع من حوصر جائعاً ويأتيه مصير من جاع قبله؟ فإن كان قد كتب علينا أن نموت جوعاً فلنجعْ معاً ولنمتْ معاً أعزة شرفاء، وكلٌّ يعتقد أنَّه ضحى بنفسه في سبيل حياة اﻵخر.
نعم إنَّ الحصار يحمل معانٍ سلبية كالموت والهزيمة، ولكنه يحمل أيضاً معانٍ إيجابية على النقيض من تلك كالحياة والنصر، كالسحابة السوداء الممتدة ولكنها تحمل المطر وتنعش اﻷرض الميتة، فهل الحصار سينعش فينا القوة للتوحد على فكه أم سيقضي على ما بقي عندنا من إرادة؟
- حتما نحن من يقرر ذلك، وربما باستطاعته أن يحقق ما عجزت عنه السنوات الخمس الماضية، فالشدة توحد القلوب، والآلام تلم الشمل، وإنَّ سبيكة الذهب البراقة لا تكون هكذا قبل أن تجمع قطع الذهب من هنا وهناك، ثم توضع في بوتقة واحدة، ثم يحمى عليها، وهذا ليس مهماً بالنسبة إلى ما يحصل في الداخل، ليته قدر لنا أن ننظر إلى داخلها قليلاً فنرى كيف تفنى كل قطعة في اﻷخرى وتمتزج معها ، وليتنا رأيناها وهي تذوب سواسية كبيرة وصغيرة، اللامعة منها و التي خبا بريقها، التي في اﻷسفل والتي في الأعلى، ثم رأيناها بعد هذا وهي تتماسك معاً لتشكل تلك السبيكة الذهبية الثمينة، فهل نخرج من هذا الحصار قطعة واحدة تبهر اﻷنظار؟
- وربما كتب علينا أن نعيشه لنفهم من جديد معنى الإيثار والعطاء، لنتذكر اﻷشعريين الذين مدحهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم كانوا يجمعون ما عندهم في ثوب واحد ثم يتقاسمونه بينهم بالسوية، وهنا أول من يعنيه اﻷمر من يملك أكثر، فيا معشر التجار والأغنياء وأصحاب المستودعات، ثم يا معشر الفقراء كونوا كاﻷشعريين، تذكروا قول الله عز وجل في اﻹيثار “وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ” الحشر (9)
لا تستصغروا المعروف ولا تستحقروه، فإنَّ المقبل على الهلاك لا يعنيه من كل طعام اﻷرض إلا لقمة أو شربة ماء يملكها الفقير والغني على السواء، ولكن إيثارها يحييه ومنعها يهلكه، (وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) المائدة 32.
- وربما لنبذل من الصبر ما يتناسب مع البشرى (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) البقرة (155) ولتسقط كل الحيل من أيدينا فنتجرد لله من حولنا وقوتنا، لنصرخ من جديد ياألله ما لنا غيرك ياألله موقنة بها قلوبنا، ( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء و أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) البقرة (214) .
وأمَّا من في الخارج فليمدد يد العون ما أمكنه، وإلا فالجميع يملك لسانا يدعو به الله الكريم أن يفرج عن جميع المسلمين، وينصر كلَّ مستضعف ومظلوم، وهذا أضعف الإيمان.