علي سندة |
كل جماعة من الناس تتفق وتصطلح على جملة من الأقوال والأفعال تُميز فيها ما هو خير وما هو شر، وبالتالي يصبح من يخالف ما اتفقت عليه تلك الجماعة في عُرفها مُتعرضًا لسخط المجتمع وازدراء الناس له. وهذه المنظومة من الأقوال والأفعال هي القيم والأخلاق التي تتكون عبر تراكم زمني نابع من ضمير الجماعة نفسها من خلال تعايشها مع بعضها البعض فيتم استساغة أشياء ورفض أشياء أخرى نتيجة الاجتماع والتعايش والتجربة، ونابع أيضًا من الدين الذي بدوره يوجه ويؤثر في تلك الأفعال والأقوال ويُكوِّن منها بعضها ويُتمم البعض الآخر ويحميها.
لكن ماذا لو تم ضرب تلك المنظومة القيمية لمجتمع ما دون أن يشعر أهله؟ تلك هي الحرب الصامتة التي مفعولها ونتائجها أشد من الصواريخ والقنابل، هي حرب التخريب التي باتت شمَّاعتها اليوم في الدول العربية خاصة في حالة السلم: “الإنسانية” وهذا النوع من الحروب لا يتم بين ليلة وضحاها، ولا يُؤتي أُكله إلا بتخطيط مُحكم ينتهي بالسيطرة على المجتمع وتدجينه كما يريد العدو، وفي حالة الحرب تكون الشمَّاعة باسم “الإرهاب”.
في الحالة السورية سيطر نظام الأسد على شعب سورية، وعمل على سلخ منظومته القيمية والأخلاقية مذ تولى السلطة، أما لماذا فعل ذلك فلأنه عندما أتى إلى الحكم على ظهر الدبابة بموجب انقلاب عسكري ما كان للشعب دور فيه، ولأجل إكمال مخطط السيطرة على الحكم بعد إخضاع العسكر، كان لا بد من القضاء على الجانب الأقوى في البقاء والمنافسة وهو الشعب المتسلح بمنظومة أخلاقية ارتضاها لنفسه بكل أطيافه وكوَّنها عبر تراكم الزمن والدين.
وبما أن الشعب أقوى من السلطة المُستحدثة رغم امتلاك الأخيرة وسيلة إخضاع الشعب بالقوة، إلا أن الأسد الأب وقتها اتخذ عدة وسائل في التخريب لضرب المنظومة الأخلاقية والقيمية للسيطرة على الشعب والتحكم به؛ فلأجل السياسيين في عصره كيَّف خطابه السياسي بالطابع القومي الذي كان سائدًا في المنطقة العربية خاصة لدى النخب السياسية عدا أصحاب التوجه الديني، لكن رغم ذلك لم تتم السيطرة بشكل فعلي على المجتمع؛ لأن تكييف الخطاب السياسي بالقومية العربية من قبل السلطة السياسية وتبني أفكارها كان هشًا في ضمير المجتمع بشكل عام، نظرًا لحداثة فكرة القومية نظريًا أمام تشبُّع المجتمع بمنظومة أخلاقية وقيمية تممها له الدين الإسلامي عبر أكثر من ألف عام، وهنا فشل الخطاب السياسي البعثي أمام ضمير المجتمع، فلجأ الأسد الأب إلى وسيلة أخرى للإخضاع عن طريق التجويع فترة الثمانينات، وكل من كان في تلك الحقبة يذكر كيف كانت العائلة تنتظر أمام المؤسسة الاستهلاكية العامة في طوابير كبيرة للحصول على علبة كبريت أو علبة زيت أو مناديل..، ترافقت تلك الخطوة الخبيثة في الإخضاع تفريغَ المجتمع من حوامله النخبوية والفكرية عبر إعدامهم وسجنهم وتصفيتهم بالسجون، وهنا ظهر جانب القوة في الإخضاع الذي ظهر بشكل جلي في مجازر حماة وحلب وسجن تدمر..
إن مسألة إخضاع مجتمع متجذر بالأخلاق والقيم عبر حرب تخريب بنيته وكل شيء ذي قيمة فيه لدرجة عدم إشعار الفرد بالتغيير، بل وجعل التغيير مستساغًا لديه ومقبولًا دون أن يشعر، وإن لم يكن مقبولًا لدى البعض على الأقل يجعلهم يفكرون أنه أفضل من الأسوأ على مبدأ (إذا راح الأسد من سيكون بديله، ومن سيكون مقاومًا لإسرائيل..)، يتطلب العمل لسنوات في تخريب المجتمع على كافة الأصعدة، فيستلزم الاستهداف فكريًا، ويكون بتخريب (الدين، والتعليم، والإعلام، والثقافة) وبنيويًا بتخريب (القانون، والنظام، والأمن..) وحياتيًا بتخريب (العائلة، الصحة، العرقية، والعمل).
وهذا ما سنوضحه بالتفصيل في المقال القادم، بالإضافة إلى انعكاس ذلك على الثورة السورية، والدور القادم في إعادة المجتمع السوري إلى منظومته الأخلاقية التي جُبِل عليها.