د. عبد الكريم بكار |
ينقضي العمر والإنسان متشوق جداً إلى فهم نفسه وفهم مكانته ودوره في بيئته وعصره، لكنه كلما حاول ذلك وجد أن عتاده لبلوغ ما يريد غير مكتمل، بل يجد نفسه مفتقراً إلى مقارنة ما لديه بما لدى غيره، وإلا لم يحصل على شيء ذي قيمة. ولعلي أتحدث هنا عن هذه القضية عبر الحروف الصغيرة التالية:
1- الطبيعة البشرية كينونة غامضة، واكتشافها يتم بالتدريج ومن خلال الظروف والمعطيات الجديدة، فنحن لا نعرف كل شيء عما يُدخل علينا البهجة، ولا كل شيء عما يزعجنا كما أننا لا نعرف ما ينبغي أن نعرفه عن الأمور التي تحرَضنا على الصلاح والإنتاجية العالية، ومن أجل تلمس هذا يشتغل ألوف الباحثين، وعلى الرغم من كثرة ما أنتجوه من بحوث وأفكار في هذا الشأن إلا أن مازال ما هو مجهول أكثر مما هو معروف.
إن الناس حين يوضعون في ظروف جديدة مثل الثراء الفاحش، أو الفقر الشديد أو الخطر العظيم يكتشفون من خلال ردود أفعالهم القيمَ التي يؤمنون بها ونوعية علاقتهم بالحياة والأحياء، ومن خلال كل ذلك يعيدون تعريف أنفسهم.
يقول جابر بن عبد الله- رضي الله عنه- مشيراً إلى التغيرات التي حدثت بعد وفاة النبي- صلى الله عليه وسلم-: “ما منا إلا نال من الدنيا، ونالت منه إلا عمر وابنه”.
2- أنا أشبِّه محاولاتنا لفهم أنفسنا ومحيطنا، وما الذي يجب علينا فعله بشخص يسير لأول مرة في صحراء مترامية الأطراف وخالية من العلامات، حيث لا يرى سوى سماء ملبَّدة بالغيوم وأرضًا مستوية وغير معبدة، إنه في هذه الحالة في أمس الحاجة إلى من يحدد له وجهته، ويدله على طريق يبلغه مأمنه حتى يخرج من التيه الذي وجد نفسه فيه، ولا يُشترط أن يكون من يرشده على صواب، بل قد لا يكون لدى ذلك الساري أي وسيلة للحكم على مدى صحة ما يشير عليه به … هكذا نحن دائماً في حاجة إلى مرآة نرى فيها صورتنا.
وإن صانع تلك المرآة هو الذي يحدد شروط انعكاس صورتنا عليها، وحين كنا نقود مركب الحضارة كنا نحن صنَاع المرآة، وكنا نحدد للناس شروط العيش الكريم، كما كنا ندل العالمين على طرق الخلاص، وعلى سبيل المثال، فقد كان من المألوف في إيطاليا في القرن الثالث عشر الميلادي أنه لا يتم تعيين أمين لمكتبة عامة، مالم يكن يجيد العربية، لأن كثيراً من محتويات المكتبات كان باللغة العربية. إذن قيادة الأمم لا تتم من خلال شن الحروب عليها، ولا من خلال استغلال ضعفها، وإنما تكون من خلال الأهلية الحضارية لتعريفها على ذواتها بالمثل والأفكار وإنتاج الكثير من الأشياء التي تعتقد تلك الأمم أن من الصعب عليها أن تعيش من غيرها، وهذا ما تفعله الدول الصناعية اليوم.
3- تشهد النخب الثقافية لدينا اليوم صراعاً واضحاً حول تحديد هويَة الأمة، ويقوم جدل واسع حول جوهر العلاقة التي ينبغي أن تقوم بين ما لدينا من عقائد وقيم وموروث ثقافي من جهة وبين النهضة ومتطلباتها وتكاليفها من جهة أخرى، ونحن لا نتوقع لهذا الجدل أن يجد أي نهاية، ما دمنا لم نُكمل اكتشاف أنفسنا ومعرفة ما نريده على وجه دقيق.
لكن أود أن أقول: إن الدفاع عن الهوية من خلال شرح فضائلها وبيان أهميتها وفوائدها لن يجدي كثيراً في مقاومة طوفان الأفكار والسلوكيات الغازية، حيث أثبتت التجارب التاريخية للأمم أن الدفاع المباشر عن الثقافة والهوية والموروثات الروحية والخلقية، وحث الناس على التمسك بها يظل ضعيف التأثير، وذلك لأن كل جديد يغرينا بتجريبه، وحين نجربه، فقد نجد فيه مالم نجده في القديم، ومن هنا فإن خير وسيلة للحفاظ على الهوية هو أن نشارك في بناء الحضارة، وأن نساهم في صناعة المرآة عوضاً عن إدمان شرائها، فالروحي والمعنوي متداخل تداخلاً شديداً مع المحسوس والمادي، وحين نتمكن من إنتاج المادي على وجه حسن وفق شروط صالحة، فإن المتوقع أن يتحسن مستوى الروحي، والعكس صحيح.