في الربيع العربي صار لزاماً بعد كل تحول وعند كلِّ منعطف أن نسمع عن مراجعات شرعية وفكرية تمارسها الحركات الإسلامية، الراديكالية منها والإصلاحية التدرجية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار سواء كان التراجع ناتجاً عن تغيير في طريقة التفكير وفهم النصوص الدينية أم ناتجاً عن ضرورات استلزمها واقع المرحلة.
اليوم صدر قرار من (هاشم الشيخ) قائد هيئة تحرير الشام يقضي بمنع التكفير وتداول النقاشات في المقرات وعلى معرفات الهيئة الرسمية وغير الرسمية منوهاً إلى العقوبة الملازمة لحال من يخالف.
القرار يعتبر خطوة نحو الأمام في مسار تخفيف اللهجة التكفيرية لدى المجاهدين، بيد أنَّه يعتبر إيغالاً في العودة للوراء خطوات وخطوات إذا ما أردنا النظر في مآلاته، حيث إنَّ الإشكالية ليست في تقنين التكفير وحصره في فئة معينة، وإنَّما في الثقافة التي أوصلت المجاهدين إلى هذه السيولة في التكفير والإمساك عن التورع، فظاهرة التكفير المتداول هي عَرض من أعراض المرض الفكري الناتج عن فهم خاطئ لقضايا شرعية أصولية.
وقيامُ فصيل ما بتقنينه ما هو إلا إعادة إنتاج لذات المشكلة، لكن بشكل آخر، فمن ذا الذي سيقبل من أفراد الفصيل أن يكبح جماح نفسه على ما اعتاده من إطلاق الأحكام على المخالفين؟ وهل حقاً يمكن لقرار صادر أن يغير قناعات مبنية على ما يسمى تأصيلاً شرعياً؟! بل هل يمكن للشرعيين تقبل قرار يجرّم ما كانوا يتداولونه كشربة ماء ويُثقل كفة الطرف المقابل؟!
الالتفات للأعراض، وإهمال الإشكالية الجذرية هو ترسيخ لحالة العجز عن العدول ،وتكريس لوضع الانهزام، وإقرار بالغلبة للصخرة المتدحرجة على منحدر التشريع، وهو يوضح أيضاً بشكل أو بآخر حجم المأزق الفكري والشرعي الذي تعاني منه فصائل الثورة اليوم!! فالحل بعلاج المرض من جذوره؛ لأنَّ علاج الأعراض قبل الأمراض يؤدي إلى مضاعفات قد تكون كارثية في مؤداها؛ لأنَّ تيار الغلو ما يزال باقياً ولن يقف مكتوف اليدين وهو يرى عملية التقويض تلتف على أذرعه، بل سيزداد شراسة كالنمر الجريح في لحظات النزاع .
فإن كان ثمَّة نصيحة تُسمع وتلقى أذناً صاغية، فإنَّ الأولى من تقنين التكفيرٍ هو العدولُ عن نشر ثقافته بنشر الفكر السليم والتأصيل الشرعي الصحيح الخالي من الغلو والتميع، وإلا فطريقنا مفضية إلى عراقٍ جديد، وما الفرق بين إدلب والموصل إلا بالتسمية؟!