نيرمين خليفة |
أزمة .. يصحُّ أن يُطلق عليها أزمة معقدة، حيث سبقها أزمة نفسية لمدّة، تراودني انفعالات مختلطة من الحزن والاكتئاب فقدت فيها الرغبة في أي شيء، غاب عني الشغف لأكثر الأمور قُرباً لقلبي، كالتحضير لرسالة الماجستير، والانخراط في مشاريعي التطوعية، وتطوير ملكاتي الأدبية، حيث لم يخط قلمي مقالة واحدة منذ ذلك الوقت، وكل ما نشرته سابقاً هي مواد كتبتها فيما مضى، وبحكم دراستي للصحة النفسية يَغلب الظن أن الألم الجسدي الذي لحق بي هو بسبب حالتي النفسية التي عانيت منها والتي ازدادت سوءاً في علاقة شبه متعدية بعد موضوع قد كشفه الأطباء عندي.
أكتب هذه الكلمات وأنا أنتظر نتائج التحاليل الطبية لورم (غِدة) سبب لي مشاكل صحية وحيرة نفسية …، أضع رأسي على الوسادة فتتدفق الأفكار كالسيل، بينما يهرب النوم إلى ضفة اللانهاية التي لم أكن لأصل إليها منذ فترة تزيد عن ثلاثة أشهر.
علمت أن الورم يمكن أن يكون خبيثاً ويجب عليَّ استئصاله، ونتيجة آلامي وتخبطي بين الأطباء، بالإضافة إلى أزمتي النفسية التي عزلتني عمَّن حولي، آثرت أن أكون في المعاناة وحدي كما أُفضل دوماً.
الأحاديث الذاتية تتقلب بي بين الفينة والأخرى، كمن به مَسّ أو انفصمت شخصيته، .. عن فتاة في الثلاثين من عمرها تُصاب بـ (ذاك المرض) الذي يحجم العامة عن لفظه لخبثه، وربما يكون مصيرها الموت، .. عن إمكانية الحصول على علاج هذا المرض المتوفر حصراً في مناطق النظام السوري التي لا سبيل للوصول إليها؟ وعن الله الذي أحاطني بالخير دائماً؟ هل طيَّب جرح قلبي في استشهاد زوجي وأخي إلا الله؟! وهل أكرمني بالجميل يوسفي إلا الله؟ وهل رزقني الصبر على متاهات الفقد وزرع في طريقي ورود الأصدقاء والأخوة إلا الجبّار؟ وهل انتشلني من مئة مجزرة ومجزرة إلا الله؟ وهل منعني من ذاك الشر الذي رغبته إلا الرحيم؟ وهل أكرمني بكل الخير الذي غفلت عن طلبه إلا الكريم؟ وهل رزقني الستر والعافية إلا العظيم؟ وهل ألقى في قلوب البشر محبتي وفي دروب الحياة طيب ذكري إلا الله؟ وهل أنشأني في أسرة صالحة شريفة إلا الوهاب؟ وهل أعطاني العقل ورزقني النجاح والتميز إلا الله؟ وهل اجتباني على ثغور الكفاح أنافح فيها عن الحق والمبدأ إلا الفتاح؟ وهل يسر لي درب الخير وبصمة الأثر إلا الله؟ هل يتركني؟ حاشاه … ولن يحملني مالا طاقة لي به جل في علاه
حررني هذا الحديث الأخير مع روحي من تلك الأوهام التي نسجها الشيطان لي ومن أفكاري السلبية حول ذاتي وحول حياتي لتُوقع بإيماني وثباتي، تلك الأوهام والأفكار لم تكن إلا بيت عنكبوت واهن أراد أن يُطيح بي ويُنهي الدرب الذي بدأته مع ثورتي، ولكن الإيمان العميق الذي منحني إيّاه ربي بدد حزني وحوّل كآبتي توسماً بالخير، فانطلقتُ من جديد بروحي المتفائلة وأفكاري الإيجابية التي وسمني بها الأسناد من الناس، كان عَوداً أحمداً، فأنجزت في شهر ما يقارب كل إنجازي في رسالة الماجستير حتى الآن، استرجعت بعض عاداتي القديمة ومنها قراءة كتب المفكر الدكتور (سلمان العودة) فك الله أسره كما فك أسري من قيود أوهامي، كتبتُ بعض النصوص للنشر ستكون هذه المقالة الأولى منها، وسيكون بعدها المزيد إن شاء الله، عدتُ إلى حياتي الاجتماعية، وتدفقتُ من جديد، أهب الحب والنصيحة لمن حولي من الصادقين.
خرجتُ من الأزمة النفسية أقوى وأشجع بروح لم تنكسر، وتعلمتُ أننا لا شيء بدون الله، مجرد هباء في ملكوته، يكبر بحجم الإخلاص له، ويتحول إلى قيمة عظيمة، وأنا موقنة بأن لا خير ولا حب ولا سعادة إلا من منه وبه، إننا لا شيء بدون ذاتنا المتمسكة بخيوط الأمل واليقين على درب الحرية المطلقة، ورضا الإله الواحد.
وفي حين أئنُّ تحت ألم الجرح البسيط أسأل الله العفو والعافية، وأتلقى دعوات المحبين بالسلامة، أعرف أن سؤالاً يدور في خلدهم كما يدور في خلدي، ماذا لو كان مرضاً خبيثاً (السرطان) لا إجابة لدي سوى أنني لن أفارق هذا العالم إلا وقد استوفيت رزقي، لا فكرة لدي ماعدا قناعتي بأن ذلك سيكون دليل محبةٍ إلهيةٍ وأسأل الله القرب والقبول، “فأشد الناس بلاء هم الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل”، فمرحبًا بحسنات ستكتب وذنوب ستمحى ودرجات سترفع، هل سأتوقف عن البحث العلمي والكتابة والعمل وو…إلخ؟! لا … بل سأكمل كل ما بدأته، فمني الجهد وعلى الله التكلان، وسأرسم البسمة مع من حولي قائلة: “ذلك الورم الخبيث كذلك النظام الخبيث علي، ربما ستؤذيني فقط دموع أمي، ومخاوف طفلي اليتيم، ولكن إيماني بأن الله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين بقلوبهم، كل ما يؤرقني هاجس تقصيري بواجباتي فيجف ماء وجهي خجلاً وحياءً ببُعدي وقلة صبري، استعلائي وكِبر نفسي ثم سجودي وتضرعي ببابه عند كربي وقلة حيلتي، “إذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَىٰ بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيض” فصلت/51
نعم في البداية كان هذا المتطفل جزءاً كبيراً من أزمتي فضاعف همومي، وأنعش مخاوفي، لكن ماهي إلا جرعةُ وجعٍ أسرجت ضياء اليقين في روحي لتتوقد متدفقة من جديد، تعمل وتنجز وتفرح وتنير ظلمات كوامنها ونفوس من حولها، هذه المحنة التي علمتني كمنحة ترمم ما تهشم فيّ من مخالطة البشر، وتُصلح فيَّ ما تركته الذنوب من سيء الأثر، لأعود نارمين التي وجدت نفسها مع الثورة السورية بمحنها ومنحها الكبيرة.
كن عن همومك معرضا وكل الأمورَ إلى القضا
وأبشر بخيرٍ عاجلٍ تنسى به ما قد مضى
فلرب أمرٍ مسخطٍ لك في عواقبه رضا
(صفي الدين الحلي)