سلوى عبد الرحمن
كثير من المقالات والتقارير تحدثت عن يوميات تعذيب النظام للمعتقلين في سجونه، وقليلة تلك التي تناولت حال ذويهم خارجها، فلا تكاد تمر لحظة دون ذكرهم وتخيل ما يتعرضون له من تعذيب على أيدي السجانين، خاصة وأنَّ سجون النظام السوري تُعرف بأنّها من أشدِ السجون قسوًة ووحشيًة في العالم.
كنتُ في جلسة نسائية مع جارات الحي في مدينة إدلب نتبادل الأحاديث ونبتسم بينما نشرب قهوتنا الصباحية، وأنا على يقين أنَّ كل واحدة منَّا تخفي خلف ابتسامتها جبالًا من الهموم والأحزان، فبراثنُ الحربِ لم تترك أي شخص إلا وكان لهُ من ويلاتِها نصيب.
وبينما كنَّا نضحك بسبب حركة قام بها أحد الأولاد، رنَّ هاتف سارة، فاحمرَّ وجهُها وبدأت تتلعثمُ في الكلامِ، ثم انهمرت دموعها على وجنتيها، جميعنا بات ينتظر لتنتهي من المكالمة ونعرف ما الذي أبكاها؟!
قالت سارة، وهي تبكي بحرقة: لقد مات الأمل؟!
لم نفهم بداية ما قصدت “بالأمل” لكنَّها بعد أن غسَّلت وجهها وهدأت قليلًا روت لنا سبب بكائها…
اختُطفت والدتي مع أخي الرضيع وباقي ركاب السيارة المتوجهة لمدينة حماة في أواخر عام 2011 من قبل جهة مجهولة، ومنذ ذلك الوقت لم نسمع عنها أي خبر على الرغم من دفع الكثير من المال لمحاولة معرفة الجهة التي اختطفتها، إلا أنَّ كل تلك المحاولات باءت بالفشل.
مرت سنوات وأيَقنّتُ مع أبي وإخوتي أنَّ والدتي قد قتلها النظام، فعائلة والدتي من أشهر المعارضين للنظام السوري في مدينة إدلب.
ستُ سنواتٍ ولم نسمع عنها أي خبر، إلى أن جاءنا خبر عنها قبل رمضان 2017 من سيدة تسكن في ريف إدلب خرجت من سجن “عدرا” بدمشق في آخر صفقة تبادل مع النظام هذا العام، أخبرتنا فيه أنَّ والدتي مازالت على قيد الحياة، وأنَّها كانت معها في السجن نفسه، وأكّدَت لنا أنَّ أخي الرضيع بلغ من العُمر ست سنوات كان قد أُبعد عنها لفترة ثم أعادوه إليها.
إلى هنا لم أكد أنا وباقي الجارات نلتقط أنفاسنا لنعرف ما الذي حصل! فبعضنا اعتقد أنَّ المكالمة أبلغتها عن وفاة والدتها أو أخيها، لكنَّها أكملت القصة وهي تمسح دموعها بمنديل بات ممزقا.
تابعت سارة: لقد حاول والدي وإخوتي التعرف على ضباط بالجيش الحر ممَّن يستطيعون التفاوض على تبادل الأسرى لدى الطرفين، وأخيرًا توصلوا إلى الشخص المطلوب، شاب من ريف إدلب معروف في محيطه بأخلاقه الحميدة وصدقه وأمانته، أكد لنا خلال آخر زيارة له أنَّ والدتنا ستكون بإذن الله بيننا خلال هذا الأسبوع، حيث سيقوم بتبادل معها بضابط أسير للنظام لديه، وما حدث الآن هو أنَّ ذلك الضابط استُهدِفَ من قبل قوات النظام هو وجماعةٍ مرافقةٍ له بصاروخٍ حراريٍ قتلهم جميعًا أثناء تبديل مناوبات الرباط على جبهات جبال اللاذقية.
تابعت سارة حديثها بسؤالٍ هل عرفتم كيفَ يموتُ الأمل؟! كان عرس الضابط خلال أيام قليلة، وعندما اتصل والدي وأبلغني هذا الخبر المفجع لم أعرف أأبكي أمي أم أبكيه؟!
يُعرف سجن عدرا بسوء معاملته للسجناء وتعذيبهم جسديًا ونفسيًا بأساليب وطرق لا تخطر على بال حسب إفادات أشخاص خرجوا منه، ويبلغ عددهنَّ أكثر من 40 ألف حسب الشبكة السورية لحقوق الانسان، بينما يؤكد مسؤول بالمنظمة العربية لحقوق الانسان أنَّ عددهنَّ أكثر من 175ألف معتقلة معظمهنَّ في الأفرع الأمنية دون محاكمة عسكرية أو مدنية، أكثر من نصف المعتقلات هنّ من الأمهات، بعضهنَّ اعتقلنَ مع أطفالهنَّ كـ”أم سارة” وأخريات أُبعد أطفالهنَّ عنهنَّ كنوع من أنواع التعذيب بالرغم من أنَّهم مازالوا رُضّعا، فما ذنبُ ذلك الطفل أن يعيش في الأسْرِ؟!
في سجن عدرا تعيش المعتقلات أحلام اليقظة والنوم على أمل أن يسطع فجر جديد ينادي السجان باسمهنَّ للخروج من قفص الظلم، في سجن عدرا لا تملكُ النساءُ سوى الدعاء بالفرج القريب.
أكثر جملة علقت بذاكرتي من قصة سارة عندما قالت: ” كم تؤلمني أشعة الشمس حين تضيء صباحَ الجميع عدا صباح المعتقلين في أقبية النظام”، سارة وباقي أهالي المعتقلين حالهم يقول لمعتقليهم: قلوبنا معكم، نشعر ونتألم معكم في كل لحظة، ونسعى أن تكونوا بيننا.
ومجددًا تترقب سارة عودة والدتها، لكنَّها تنتظر وتحلم وتنتظر، ولكن هل يعود الأمل؟!