أنا حبة رمل صغيرة، كنت في صخرة، وكانت الصخرة في الغار، ويوم هجرتِه حين لجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغار، أسند ظهره إليَّ فصرت أسعد حبة رمل في العالم،
شعرت بإحساس غريب لا يمكنني وصفه، كنت أشم رائحة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم واسمع كلامه وهو يقول لأبي بكر صاحبه: “لا تحزن إن الله معنا” ولو كنت أستطيع الكلام حينها لأخبرت الرسول بأنني أنا أيضا معهم، لكن فرحتي يومئذ ربطت لساني.
أنا بالأصل كنت جزءًا من إنسان مات منذ مئات السنين، تفتت عظامه واختلطت مع حبات رمل أخرى، انتقلنا من مكان لآخر، تجولنا كثيرًا من صحراء تحرقها الشمس إلى شاطئ جميل إلى ضفاف نهر حيث الخضرة تحيط بالمكان حولنا، ثم أخذتنا الرياح بعيدًا بعيدًا، فشهدنا حروبًا ومجاعات، وتشردنا ونمنا بالعراء حيث لا حياة ولا ماء ولا غطاء سوى القمر وليله الجميل، ومن ثم انتهى بنا المطاف في قلب صخرة، آه ما أصعب تلك الرحلة الطويلة جدًا! وما أحلى تلك اللحظة الرائعة ًالتي لامستُ فيها ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقد نسيت عندها كل آلامي الماضية عبر مئات السنين.
في تلك اللحظة شعرت حقًا أن أغلى وأجمل كائن في الحياة الدنيا وفي الآخرة هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك وللأسف هناك من البشر من يسيء لهذا النبي العظيم.
كم كانت صدمتي كبيرة حين عرفت أن بعضًا من قومه وصفوه بالساحر والمجنون! وكم حزنت وبكيت حين سمعت أنه عليه الصلاة والسلام لاقى أصنافًا من العذاب في سبيل نشر دعوته ومن أجل أن يصدح بكلمة الحق ليخرج الناس من الظلمات إلى النور!
لكن الإساءة إليه لم تنتهِ بانتقاله إلى جنة عرضها السماوات والأرض، فمازال النبي الكريم عليه الصلاة والسلام يُساء إليه حتى بعد موته، بعضهم يكتب عنه بسوء وبعضهم يرسمه، لا أدري كيف طاوعك قلمك أيها الرسام لترسم الرسول الكريم بصور كاريكاتيرية مضحكة وتستهزئ به وهو الذي جاء رحمة للعالمين لكل البشر ممن آمن به أو لم يُؤمن؟! هو الذي وقف حين مرت جنازة يهودي وقال: “أليست نفسًا؟” هو الذي أراد الخير لكل الناس وأمر صحابته الكرام بنشر دين الإسلام، وأمر كل مسلم على وجه الأرض أن يحمل رسالة الحق والخير لكل الناس في كل زمان وفي أي مكان، وقال عليه الصلاة والسلام :”بلغوا عني ولو آية”
من أنا يا رسول الله لأروي مزاياك وفضلك على كل البشر وعلى كل الحياة؟! وما أن إلا حبة رمل تشرفت بملامسة ظهرك، وأنت الذي أحبك الشجر والبشر والحجر وبكى بين يديك الجمل وحن إليك الجذع وراح يئن، إن من لا يعرف حبك لا يعرف من معنى الحب شيئًا، ومن ينكر فضلك فهو الجاحد المطرود من رحمة الله.
وهناك من أنصف حين كتب وإن كان غير مسلم فالفضل ما شهدت به الأعداء، نعم فقد شهد رجل يكتب بقلم الحق أنك أعظم إنسان عرفته البشرية جمعاء، وكنت الجوهرة النادرة المضيئة في كتابه “المئة الأوائل” وأنا يا رسول الله أخلد ذكري براوية حبي لك، وها أنا اليوم وقد أتيحت لي الفرصة لأبوح بفرحتي وذكرياتي، مازلت في مكاني وماتزال العنكبوت تنسج خيوطها عند باب الغار بين حين وحين وقد مرت مئات السنين وما أزال حتى اللحظة افتقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحن إليه، شيء واحد يعزيني ويؤنس وحدتي من بعده، إنها الصلاة عليه وذكره الذي ملأ كياني الصغير جدا فأصبحت أكبر من جبل أحد.