نحن الذين يأكل الوحل وجوههم كلّما نُصبت خيمة أو طافت الأرض بغيث السماء، نحن الذين ننجرف في مستنقعات خيبتنا منذ ثماني سنوات ولا نقدر أن نتمسك بشيءٍ من الكرامة، وكيف نفعل وقد راقت الحياة لنا والحرب التي أشعلناها تأكل الآخرين؟!
تتثاقل إلى الأرض خشوعاً، وتهتز أركانها ارتعاشاً، وترتجف أوصال من فيها برداً وقهراً، لا دارَ يرجعون إليها، ولا جدارَ يركنون إليه، ولا أرضَ صلبة يقفون فوقها، فالوطن كلُّه كالخيام يتهاوى، وهم وحدهم الموكَّلون بعيش سكراته.
أمسكوا بالوطن ما استطاعوا، لكنه كان جدراناً من قصب وأرضاً من رمال تذروها الرياح كيفما شاءت، وتعصف بهم في أوديتها السحيقة.
نشعل الحرب ونوقد الثأر ونعلن الرفض لكل هدنة أو صلح، ونطلب الدماء بالدماء، ثم نجلس في بيوتنا خلف المدافئ المشتعلة والفرش الوثيرة وغيرنا يتمسك ببقية خيمةٍ تهزها أصواتنا إن صرخنا، وتجرفها دموعنا إن بكينا.
كلّ ما نفعله هو الدعاء لهم، أو أن نعض شفاهنا بغضب وحنق، ونحن نتبادل السباب لنبرأ أنفسنا من الفاجعة ونتهم غيرنا بارتكابها، والريح الباردة تستغل غوغاءنا وتستمر بحصد الخيام وأصحابها.
نفرح بالمطر فيبتلون ألماً وبرداً، نحتفي بالثلج فيكفنون به، نكتب قصائدنا الجميلة فيغرقون في بحورها دون أن نشعر، وفي النهاية يصفق الجميع لنا لأننا أحسنّا التعاطف والرثاء.
في الليل تختفي أوجاعهم، يصمت صوت صياحهم إلا من بعض الأنين، ينام الأطفال من الحمّى ويسهر الكبار من كثرة الأوجاع، ليمضي ما بقي من الشتاء وقد دَفنَ من استطاع منهم، ونخرَ عظام الباقين بانتظار جولة قادمة، ونحن ما زلنا نتدثر بالدعاء فحسب.
نمدّ أيدينا إلى جيوبنا، نخرج القليل جداً، ونقول هذا ما نستطيعه، إن أطفالنا أيضاً يحتاجون هذه الأموال، وهناك منظمات عديدة هي المقصّرة لا نحن، هم يمتلكون المال ويسرقونه، وبمثل هذه الكلمات نخدر ضمائرنا، نفتحها للريح نفسها لتغدو باردة كالصقيع ثم نغرق .. نغرق نحن في مستنقعات شُحنا وكرامتنا المتعفنة.
المدير العام | أحمد وديع العبسي