بقلم جاد الحق
قبل البدء بحديثنا لنتعرف أولا على مصطلح الماجريات، هذه اللفظة المركّبة «الماجريات»، مركبة من (ما جرى) فهي تعني الأحداث والوقائع والأخبار.
وهي كلمة استعملها المؤرخون والأدباء في العصر الإسلامي الوسيط، كما نجدها عند ابن خلكان والسخاوي وغيرهم بمعنى الأخبار والحوادث، وآل بها الأمر إلى أن أصبحت تعني عند علماء السلوك: اشتغال المرء بالأخبار والأحداث التي لا نفع فيها.
في زمن يسمى عصر السرعة، ويوصف بثورة المعلومات، صار فيه العالم قرية صغيرة، فانتشرت الوجبات السريعة، والأطعمة الجاهزة التي أجمع مختصو الصحة والتغذية على ضررها وعدم نفعها، فهي تسبب زيادة والوزن والكولسترول و….إلخ، ناهيك عن انعدام قيمتها الغذائية.
بالتوازي مع الوجبات الغذائية السريعة، انتشر أيضا الوجبات العلمية السريعة، التي أسقطت العلم من مرتبته القدسية التي لا ينال شرفها إلا بالتعب والجد ومجاهدة النفس والهوى، إلى سلعة سوقية في متناول الجميع.
فبدل أن تفني عمرك بقراءة ودراسة الكتب والمذاهب السياسية لعدة سنوات، ثم تمارس عمليا ما درسته وقرأته على الأرض، وترى الفوارق، وتقوم بمراجعات لما مرَّ بك، ثم أخيراً تصل لمرحلة السياسي، الذي بمقدوره أن يحلل ويوازن ويخطط ويستنتج، اليوم ما عليك إلا أن تخوض معامع ” الماجريات ” فتتابع المواقع والقنوات الإخبارية المختلفة، وتقرأ وتشاهد كل ما يعرض تحت عنوان السياسة من أقصى اليمين لأقصى اليسار، ثم تقحم نفسك بدوامة سياسية ما، حينها تجد نفسك قد أصبحت سياسيا دون أن تشعر.
الطريق الأول طويل شاق متعب، الطريق الثاني سهل ممتع مختصر، لكن الطريقين لا يوصلانك لنفس النتيجة.
في الطريق الأول تصبح سياسي بكل ما تحمل الكلمة من معنى، بينما في الطريق الثاني تصبح عشر سياسي، ربع سياسي، ثلث سياسي، ولن تتجاوز النصف في أحسن أحوالك.
النقطة الأهم أنَّ الطريق الأول يمكنك من أن تحجز لنفسك مكانا في مسيرة تحضر مجتمعك، بينما الطريق الثاني تحجز به لنفسك مكانا في عرقلة مسيرة تطور مجتمعك.
الانشغال بالماجريات من أهم أسباب توقف الإنتاج الفردي والمجتمعي، ففي مجتمعاتنا كل مواطن عربي تجده متعدد الملكات والمواهب بشكل ملفت، هو وحده دولة كاملة بما فيها من زعماء، وقادة، وسياسيين، ومفتيين، وموسيقيين، و….، كل ذلك بسبب إشغاله لنفسه بالماجريات المختلفة التي مكنته من امتلاك التعابير والملامح العامة لكل فن، لكنها لم توصله لدرجة التخصص والإتقان فيه.
بينما الدول المتقدمة حول العالم، أفرادها متخصصون في مجال، أو مجالين، أو ثلاثة بأحسن الأحوال، فترى الجميع فاعلين منتجين، السياسي يلتزم بالسياسة فيبدع، ولا يزاحم غيره في مجاله فيشوش عليه، الطبيب، المهندس، الباحث، كلهم الشيء نفسه.
من طرائف مجتمعنا أنَّه حتى فيما يسمى بالمجال الفني، تجد الممثل يغني،
والمغني يمثل، وقس على هذا.
قد يقول البعض انتشار الإعلام، وانشغال المجتمع بالماجريات من نعم الحضارة علينا التي يجب استغلالها، فاليوم باستطاعتك أن تتعرف على جميع وجهات النظر،
والجواب على ذلك، أنَّ التنوع الإعلامي الحاصل قد زاد عن حدِّه؛ لدرجة التشويش والفوضى، فصار العالم من حولنا كأنَّه ثوب منسوج من مئات الألوان التي تعمي العين وتشوش العقل، أو مقطوعة موسيقية من آلات مختلفة وكل آلة تعزف بصوت وتواتر مختلف، مما يجعلك تشعر كأنك تركب الأفعوان في مدينة الملاهي.
هل المطلوب منا أن ننعزل عن الماجريات من حولنا بقواقع وصوامع؟
الجواب لا حتما، لكن المطلوب أن نركب لأنفسنا منقيات تحجب عنها شوائب الماجريات، مع خلق حالة توازن ذاتي، بين ما هو مطلوب لأهميته، وما هو مرغوب لإغرائه، وجدول لتحديد الأهمية من الأهم إلى الأقل أهمية.
ما هو تأثير الماجريات على الثورة السورية؟
بعد أن شلّت الثورة قبضة النظام القمعية، وبدأت الناس تتحدث بالسياسة والدين، المحرمتين على الشعب في عهد البعث، راجت ظاهرة الماجريات والحديث عنها، فالكل يحلل ويناقش ويفند ويوضح ويبدي رأيه.
ومع انتشار الفصائل وتنوعها، ظهر ما يسمى بالدورات الشرعية، وهي فكرة طيبة غايتها تعليم الناس ما جهلوا من أمر دينهم ممَّا لا غنى لهم عنه، ولكن مع الأسف استغل أعداء الثورة من مختلف التوجهات موضوع الدورات الشرعية، وحولوها لمصانع إنتاج للمفتيين، فيكفيك أن تحضر دورة شرعية مدتها شهرين مثلا، لكي تصبح شيخ الإسلام ابن تيمية، وتفتي بالتكفير ومناطات الردة، وبكل نازلة لو عرضت على عمر بن الخطاب، لجمع لها الصحابة.
فالكبت الديني السياسي الاجتماعي أيام النظام، ولَّد لدينا شرها وتعطشا للماجريات والحديث عنها، وإبداء الرأي فيها.
ولأنَّ المصائب لا تأتي فرادى، ولأننا كنَّا نعاني بالثورة ممن يفتي بالنوازل ومخزونه العلمي شهرين فقط من دورة شرعية، اليوم نجد ما يسمى ” منظرين “، موهبتهم تتمثل في ركوب موجة الماجريات، لا يعرفون سورية إلا على الخريطة، ولا الثورة إلا عبر الإعلام، ومع ذلك صدروا أنفسهم للإفتاء للثورة، فكانت فتاواهم شقيقة براميل النظام وصواريخ روسيا، كلها تصب لمصلحة أعداء الثورة المختلفين، فخيرة فصائل الثورة عندهم، مرتدة، وموالية للكفار، ومرتزقة، فما بالك بعموم الثوار؟!، فليت شعري ما فتكت بنا الماجريات وأهلها.
قم بجولة قصيرة على الفيسبوك أو التويتر لتصدم بعدد العلماء والأدباء والمثقفين والمفكرين والمفتيين والسياسيين في مجتمعنا، هنا تسأل نفسك إذا كان لدينا هذا الكم المهول من الكوادر فأين أثرها علينا؟ لماذا لا زلنا في الدرجة الأخيرة من سلم الحضارة؟
الجواب لأنَّ ما تراه هو نتيجة الماجريات، التي تصنع لك نصف مفكر ونصف مثقف ونصف عالم، وتكون المحصلة العامة لإنتاجهم الحضاري هي الصفر في أحسن الأحوال، هذا إن لم تكن بالسالب.
هناك مثل ألماني أحب أن أختم به يقول: ” دع السياسة للسياسيين “
نعم دعها لأهلها فهم أولى بها، ودع الإفتاء لأهله فهم أولى به، ودع القيادة لأهلها فهم أدرى بها، ودع الثقافة والعلم والفكر لأهلهم، فهم وحدهم من يعرفون كيف يوردون الإبل، وإن شئت أن تصبح مثلهم، أخرج نفسك من حوض الماجريات الضيق المريح، واسبح بصبر وجد بمحيط التحصيل العلمي والثقافي.