محمد ديرانية | كاتب وباحث سوري
إن التطلّع إلى الكمال، صحيح من حيث المبدأ، ومطلوبٌ في مختلف المجالات الاجتماعية والمعرفية، في حال حظي الكمال بتعريفٍ صحيح، وتم التعاطي معه في ضوء الممكن والمستحيل، وحدود مثالية الحياة الدنيا من حيث الخطوط الحمراء المرسومة لها وجوديًا، ولكنه يأخذُ منحىً آخر، ويورثُ شعورًا دائمًا بالذنب، إذا لم يُعرَّف بشكل صحيح وتم التعاطي معه وسط بيئة ذهنية من المفاهيم المثالية، مُستحيلة التحقق واقعيًا، ( بصيغة ثانية، تكون شدة مثاليتها قد تجاوزت الخطوط الحمراء المسموح للدنيا أن تبلغها).
من يقع بفخ التطلع إلى الكمال الوهمي؟
العديد من الأصناف، لكن تزداد النسبة عند الحديث عن الشباب (ذكورًا وإناثًا) في طور انطلاقهم، حيث تدفعهم طبيعة شخصيتهم الممتلئة، والتي تتلذذُ في التعامل مع كل مسار -يبدو صعبًا من الخارج- من زاوية التحدي مباشرة، إلى الاعتقاد بإمكانية تحقيق النموذج المثالي القائم في أذهانهم، وتشخصيه كواقع على الأرض، دون تفحص التفاصيل أو الخوض في الجزئيات كثيرًا.
والذي يجعلُ الشباب أكثر عرضة للانزلاق إليه من غيرهم، هو هويتهم النفسية في تلك المرحلة العمرية، والتي يمكن أن تمتد إلى سنين أخرى لاحقة، إن لم يغيروا المصادر الثقافية والأوساط الاجتماعية التي يستوردون منها المعرفة والتجارب، ويحتكوا بأوساط مغايرة.
يغلب على الشاب الميلُ إلى الصراع الخشن والاصطدام مع المعوقات أو الصعوبات أكثر من الصراع الذي يتم فيه استخدام الأسلحة الناعمة، والتطلع إلى التفاصيل الداخلية، وتفحص خواصها، وكيفية علاقتها ببعضها، في محاولة لإضعافها عبر نقضها داخليًا وتفكيكها.
إن الميل المؤقت لدى الشاب، إلى ممارسة الصراع مع الصعوبات التي تعترض تحقيق النموذج المرسوم في ذهنه، عبر الاصطدام المباشر دون تفحص تفاصيل الإشكالية التي عليه أن يصطدم بها، لاحتمالية جدوى استخدام الأسلحة الناعمة معها، يعدُّ الإشكال الأبرز الذي تنمو فيه احتمالية الوقوع في فخ الكمال الوهمي.
وذلك لأنّ مبدأ تفحص التفاصيل ومعرفة خصائها، قد يجنّب الإنسان معركة بأكملها يستحيل فيها الانتصار، وتنضوي تحت مظلة “مثالية تجاوزت الخطوط الحمراء القصوى لكمال الدنيا”.
النتيجة الأولى:
في فخ الكمال الوهمي، ينشط الجهاز العضلي(القوة)، ويقلُّ استخدام الجهاز الدماغي(الفكرة)، بمعنى أنّ الشاب في ذاك الوسط النفسي يكون متأثرًا بالمبادئ الممتلئة، والدوافع الطيبة فيه، والانفعالية الشبابية، والحلول الحسميّة .. لدرجة تدفعه لئلا يراجع صحة المعركة ككل قبل أن يشعلها.
“نتحدث عن معارك غير مجدية قد تستهلك من عمر الشاب من خمس إلى عشر سنوات، قبل أن يكتشف أنه أخطأ الاختيار، وأن الانتصار في هذه المعارك، يعني جذب الآخرة للدنيا، وتحقيق نموذج الجنة بأدق تفاصيله في الحياة الدنيا، وبالأخص تلك التي تتعلق بنظافة القلوب من الغلّ، وسلامة المبادئ من الانحراف، وتشبّع النفوس بقناعات الفطرة، بحيث تصبحُ نقية مستحيلة التعكير” .
إن الانزلاق إلى فخ الكمال غير المتاح، يورث لدى الإنسان حالة نفسية منغلقة على مفاهيمها وعالمها المثالي، وتفصله عن واقعه ومحيطه، وتجعله يعيش شعور المذنب بشكل مستمر، ويشعر بوخز الضمير كلما تذكر أنه لم يتمكن من تحقيق النموذج المرسوم في ذهنه، وسيتذكر ذلك كلما نظر من حوله، ورأى ملامح مختلفة لا تنطبق مع ما لديه.