إنَّ الوعي الشعبي هو وعي غير حصيف، ليست هناك طريقة وحيدة لتشكيله أو صناعته، لكن غالبا ما تلعب وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي الدور الأبرز في ذلك، تليها التغيرات الكبيرة والصراعات المحتدمة التي تجعل بعض المقولات تطفو على السطح كمبادئ لا يمكن النيل منها أو تغييرها.
لا يخضع الوعي الشعبي للمنطق ولا للغة المصلحة (دون أن ننفي كون هذه الأمور من الممكن أن تكون محركات لهذا الوعي)، إنَّه وعي طفولي انفعالي فطري، يتميز بكثير من البراءة والعفوية والصدق، دون أن يعيَ محركاته الرئيسية أو من يوجهه ويستفيد منه، ويلعب على لغة المشاعر التي لا تتقن الشعوب سواها، أو على الأقل هي اللغة التي تحرك الشعوب بالدرجة الأولى.
الوعي الشعبي يؤثر بقوة في الوعي الفردي سواء المثقف منه أو العامي، ويفعل فعله في حمل الأفراد على تبني القضايا التي تكون ذات زخم جماهيري ما، مهما كانت هذه القضية صحيحة أو خاطئة أو مغرقة في المثالية صعبة التحقق، هذه المثالية التي عادة ما تكون بالنسبة إلى التيار الشعبي أمراً من المفترض أن يكون سهلاً، وأن يتحلى به كلُّ أولئك الناس الذين يتصدون لقيادة المصالح العامة، وإلا فإنَّهم لا يستحقون أماكنهم، ويتهمون بالتخاذل والخيانة.
في النهاية الوعي الشعبي يشكله أفراد تصنعهم الآلة الإعلامية أو المواقف التي تدعمها هذه الآلة وينجر الناس خلفهم دون دراية غالباً، ويبدأ تشكل حلقات داعمة لمواقف معينة سرعان ما تتسع لتشكل تيارات شعبية، تبدأ بترديد مقولات ذات صيغة مثالية تجذب البسطاء من كل مكان، ويصبح التخلي عنها أمراً صعباً، ويستمر العزف حول هذه المقولات لأنَّها صارت تشكل جماهرية أصحابها، وجزءًا كبيراً من كينونة وجودهم، والتخلي عنها يعني التخلي عن هوية كاملة لهذا التيار أو ذاك والسباحة في الفراغ، أو رحلة جديدة للوصول إلى الجماهيرية الواعية ليست مضمونة النجاح.
إنَّ كلَّ ذلك يعتمل في اللاوعي الجمعي والفردي في آنٍ معاً، ويصبح تقارب الشخصيات والتيارات ذات الصبغة الجماهرية الساذجة أو البسيطة التي كسبت جماهريتها عبر ترديد المثل والتجمهر حولها دون وعي لعدم إمكانية تحققها، أمراً لا بدَّ منه، هذا التقارب يحمي هذه الشخصيات أو التيارات، ويجعلها تدافع عن بعضها وتؤكد مقولاتها بين الحين والآخر، إنَّه أمرٌ شديدُ التعقيد وشديدُ البساطة في الوقت نفسه.
جزءٌ كبير من مثقفي هذا التيار تبدأ ثقافتهم بالضمور لصالح الانصياع للمقولات الشعبويّة الرائجة التي تحفظ لهم جماهيريتهم وقوة تأثيرهم، طبعاً بغض النظر عمّا يحدث في كثير من الأحيان عندما تدخل معظم هذه الشخصيات تيارات مؤدلجة وتلعب دورها لصالحها ببراعة واتقان، وينتقل الأمر للعمل على صناعة محركات لتوجيه الوعي الشعبي نحو قضايا معينة، وحشد الرأي العام حولها.
المدير العام | أحمد وديع العبسي