لا أعرفهم جميعًا، بعضهم من أهالي المدينة وآخرون من النازحين والمهجرين عرفتهم من لهجاتهم المتنوعة (حلبي، شامي، حمصي، ديري…)، إنهم ركاب الباص المجاني المخصص للعامة من قبل إحدى المنظمات في مدينة إدلب الذي يدور ضمن دائرة معينة ويقف في محطات محددة، إضافة إلى باص آخر يقوم بالمهمة نفسها في القسم الجنوبي من المدينة.
صعدت برفقة “رهف” ابنة جيراننا التي التقيتها على الموقف في أول رحلة للباص، فهي تعمل معلمة في إحدى المدارس البعيدة عن منزلها، أوصلها الباص إلى محطة وقوف قريبة من مدرستها، أما عند عودتها فقد تعاقدت وزميلاتها مع سائق تكسي يوصلهنَّ إلى منازلهنَّ بعد يوم شاق مع الطلبة، تنتظر رهف فرصة للذهاب إلى تركيا لتلحق بخطيبها الذي لا طاقة له بدفع الكثير من المال لإخراجها من إدلب عبر المعبر.
انطلق الباص إلى المحطة التالية حيث بدأت أصوت ضحكات الطلاب ونقاشاتهم تعلو على كل الأصوات، فيثيرون الضجة داخله ولا يتبق مكان فيه للجلوس، إنها ساعة الازدحام والذهاب إلى المدرسة والعمل، بعض الطلاب يلبسون كنزات ياقاتها وأكمامها مهترئة ويحملون حقائب (اليونيسف) التي تخاذلت عن حمايتهم ومدارسهم، يحاول السائق عبثًا أن يضبط أعصابه فيتشاجر مع بعضهم في حال تأخرهم بالصعود أو النزول، وأحيانًا يتبادل الشتائم مع بقية السائقين الذين يواجههم في طريقه.
في نهاية الباص يقف طالبان في مقتبل العمر يبدو عليهما النشاط والمرح، تقاذفا الحقائب وهما يخططان بصوت مرتفع للعب بالكرة مع أصدقاء آخرين بعد استراحة الغداء، تسريحة شعرهما تدل على الثقة الكبيرة بقدراتهما.
في مكان ليس ببعيد عني يقف شابان في الأربعينات من عمرهما تناقشا حول التطورات السياسية في إدلب، أحدهما يصرُّ على البقاء في المدينة مهما حصل، والآخر يحاول أن يجد سبيلًا للنجاة بأسرته في حال اندلعت الحرب المحتملة على المدينة.
على يميني مباشرة تجلس طالبات جامعة يتحدثنَ عن حسن خلق الأستاذ “فلان” وفساد أخلاق آخر، وينتقدنَ ملابس الطالبة “فلانة”، كان صوتهنَّ منخفضًا لدرجة أنني لم ألتقط أسماء الأساتذة الذين تحدثنَ عنهم، في وجوههنَّ عزيمة على مواصلة التعليم رغم العوائق والصعوبات التي يمرُّ بها التعليم في مدينتنا، إنهنَّ بناة المستقبل رغم كثرة كلامهنَّ التي انتهت حالما وصلنَ إلى محطة الجامعة.
في محطة أخرى يصعد رجل سبعيني لم تنل الحرب من همته إلا أنه فقد جزءًا من ذاكرته، طلب من السائق أن يوصله إلى “سراقب” شرق إدلب، فأجابه السائق بأن الباص مخصص للنقل داخل المدينة فقط، غفى السبعيني في الباص قليلًا ثم أيقظه معاون السائق وأنزله في أقرب نقطة يمكنه الذهاب منها إلى كراج سراقب، لكن الحاج السبعيني نسي قطرميز العسل الذي كان يحمله في الباص ولا سبيل لإيصاله له.
تصعد مكانه امرأة أخرى ستينية يتصبب العرق من جبينها يبدو عليها التعب، كانت في سوق الخضار لأنها تحمل أكياسًا فيها احتياجات أسرتها من خضار، فتساءلت في نفسي كيف أوصلتهم إلى محطة الباص التي تبعد عن السوق 200 متر فأنا أصغرها سنًا ولا طاقة لي على حملهم؟! تقف قليًلا فيصرخ السائق: ما بك لا تصعدين؟ فتشير إلى الأكياس لينزل معاون السائق مباشرة ويساعدها في حملهم إلى الباص، قضت فترة تسأل جميع الركاب عن صرافة 50 ل.س إلى قطعتين نقدتين من فئة الـ 25 فلا تجد وتعيدها لمخبئها الآمن في محفظة من القماش في صدرها خوفًا من الضياع والسرقات التي تحدث في المدينة المزدحمة.
اقترب الباص من الوصول إلى المحطة التي سأتوجه منها إلى بيت أهلي في شرق المدينة، نزلت وصعد شاب وسيم في العشرينات من عمره يحمل عكازًا يتسند إليها بدل ساقه التي يبدو أنه فقدها في إحدى الغارات الجوية حاله كحال الكثيرين هنا.
ثم مضى الباص في المدينة المتعبة ليكمل غيري متابعة حكايات تشبه التي كتبتها لكم وتختلف وتتنوع بحجم التنوع الموجود في المدينة والأحداث التي مرت على كل فرد ..