د. عبدالكريم بكار |
أثار كتاب “Mediocratie” أو نظام التفاهة. ضجة بين مثقفي الغرب ونقاده، بحثًا عن الأسباب التي جعلت التافهين يتحكمون بمواقع صنع القرار في العالم، سياسيًا، واقتصاديًا، وثقافيًا..
يقول الكاتب والفيلسوف والأستاذ الجامعي الكندي ألان دونو (Alain Denault): “إن الأمر يتعلق بـ “ثورة تخديرية “، تدعونا أن نكون دائمًا في الوسط، أن نفكر برخاوة، أن نضع قناعاتنا في جيوبنا، أن نكون كائنات قابلة للمبادلة وسهلة الترتيب في الأدراج، ألا نحرك شيئاً وخاصة ألا نخترع شيئًا يمكن أن يؤثر على النظام الاقتصادي والاجتماعي.”
ويرى آلان أن التافهين قد حسموا المعركة، من دون اجتياح الباستيل (إشارة إلى الثورة الفرنسية) ولا حريق الرايخشتاغ (إشارة إلى صعود هتلر في ألمانيا) ولا رصاصة واحدة من معركة “الفجر” (إشارة إلى المعركة الأسطورية بين بونتا وبراكمار)، ربح التافهون الحرب وسيطروا على عالمنا وباتوا يحكمونه.
ويقول ألان دونو: “لا لزوم لهذه الكتب المعقدة. لا تكن فخورًا ولا روحانيًا، فهذا يظهرك متكبرًا. لا تقدم أي فكرة جيدة، فستكون عرضة للنقد. لا تحمل نظرة ثاقبة، وسع مقلتيك، أرخ شفتيك، فكر بميوعة وكن كذلك. عليك أن تكون قابلًا للتعليب. لقد تغير الزمن. فالتافهون قد أمسكوا بالسلطة”!
وحين يسأل عن أسباب هذا التحول، يعيد ذلك إلى عاملين اثنين، في السوسيولوجيا والاقتصاد، كما في السياسة والشأن العام الدولي.
السبب الأول يعزوه “دونو” إلى تطور مفهوم العمل في المجتمعات. يقول: إن “المهنة” صارت “وظيفة “، وهو ما وصفه ماركس منذ 1849، عندما قال: إن اختزال الرأس مالية للعمل في قوة ومن ثم مكافأة فإنها انتزعت روحه. صار شاغل المهنة يتعامل معها كوسيلة للبقاء لا غير.
يمكن أن تعمل عشر ساعات يوميًا على وضع قطعة في سيارة، وأنت لا تجيد إصلاح عطل بسيط في سيارتك، يمكن أن تنتج غذاء لا تقدر على شرائه.
السبب الثاني مرتبط وفق “دونو” بعالم السياسة ومجال الدولة والشأن العام.
هنا بدأت سيطرة التافهين، أو ولدت جذور حكم التفاهة مع عهد مارغريت تاتشر. يقول: إنه يومها جاء التكنوقراط إلى الحكم، استبدلوا السياسة بمفهوم “الحوكمة”، واستبدلوا الإرادة الشعبية بمفهوم “المقبولية المجتمعية”، والمواطن بمقولة “الشريك”.
في النهاية صار الشأن العام تقنية “إدارة”، لا منظومة قيم ومثل ومبادئ ومفاهيم عليا، وصارت الدولة مجرد شركة خاصة، صارت المصلحة العامة مفهومًا مغلوطًا لمجموع المصالح الخاصة للأفراد، وصار السياسي تلك الصورة السخيفة لمجرد الناشط اللوبي لمصلحة “زمرته”.
من هذين المنطلقين، تنميط العمل وتسليعه وتشييئه، وتفريغ السياسة والشأن العام، صارت التفاهة نظامًا كاملًا على مستوى العالم. وصارت قاعدة النجاح فيها أن “تلعب اللعبة”، حتى المفردة معبرة جدًا وذات دلالة.
لم يعد الأمر شأنًا إنسانيًا ولا مسألة بشرية، هي مجرد “لعبة”، حتى أن العبارة نفسها راجت في كل لغات عالم التفاهة: “علينا أن نلعب اللعبة”، وهي قاعدة غير مكتوبة ولا نص لها، لكن يعرفها الجميع: انتماء أعمى إلى جسم ما، يقوم على شكليات السهرات والغداءات والانتقامات. بعدها يصير الجسم فاسدًا بشكل بنيوي قاطع. حتى أنه ينسى علة وجوده ومبادئ تأسيسه ولماذا كان أصلًا ولأية أهداف…
هكذا يرى دونو أنه تم خلق نظام حكم التافهين. نظام يضع ثمانين في المئة من أنظمة الأرض البيئية عرضة لأخطار نظام استهلاكهم. ويسمح لخمسين في المئة من خيرات كوكبنا بأن تكون حكرًا على واحد في المئة من أثريائه، كل ذلك وفق نهج نزع السياسة عن الشأن العام وعن التزام الإنسان.
كيف يمكن مواجهة حكم التافهين هذا؟ يجيب دونو: ” ما من وصفة سحرية، الحرب على الإرهاب أدت خدمة لنظام التافهين، جعلت الشعوب تستسلم لإرادات مجموعات، أو حتى لأشخاص، كأنهم يملكون عناية فوقية، بدل أن تكون تلك الحرب فرصة لتستعيد الشعوب قرارها، إنه خطر «ثورة تخديرية» جديدة، غرضها تركيز حكم التفاهة.
المطلوب أن نقاوم التجربة والإغراء وكل ما لا يشدنا إلى فوق، ألا نترك لغة الإدارة الفارغة تقودنا، بل المفاهيم الكبرى، أن نعيد معاني الكلمات إلى مفاهيم مثل المواطنة، الشعب، النزاع، الجدال، الحقوق الجمعية، الخدمة.
بتصرف..