غسان الجمعة |
لا شك أن احترام الأعراف الإنسانية والقوانين الدولية أمر يعكس درجة النضوج الحضاري للأمم وحقبها، ويؤطر قواعد السلام والتعايش بين الشعوب في شتى المجالات، غير أن هذه المعايير فقدت وظيفتها وغايتها عندما وُضعت على محك الصراع والتجاذبات الدولية في العديد من بؤر الصراع العالمي وعلى رأسها المسألة السورية.
فليس خفياً على أحد سياسة الكيل بمكيالين التي تنتهجها الدول الكبرى في علاقاتها مع بقية دول العالم وما تعكسه هذه السياسة من التنظير لهذه المبادئ والقواعد واعتبارها خدمة للمصالح عبر انتقائية المقاييس وتكريس الهيمنة لتكون المعادلة مشروعة بين الجلاد والضحية، رغم ذلك فلو فرضنا أن منطق القوة يتيح الغطرسة لهذه الدول فهل نستطيع أن نفترض أيضاً منطق الاستكانة والقناعة بتسلط الذل على رقبة الضحية؟
في إحدى الغرف على وسائل التواصل الاجتماعي التي تجمع نخبة من الرموز الثورية السورية عُرض مقطع فيديو يُغطي ما يدور من مجازر وقصف على مدينة خان شيخون ظهر فيه الإعلامي (داريل لامونت فيلبس) وهو صحفي أمريكي اشتهر باسم (بلال عبد الكريم) وقد صنفته الإدارة الأمريكية في 2017 على قوائم الإرهاب، سرعان ما جاءت بعض الردود على مقطع الفيديو مستنكرة وجوده وعمله واتهمته على الفور بارتباطه بالقاعدة، واعتبرت عدم نقله للحدث وعدم وجوده هو الأنسب. بينما لم يكن هناك تعليقات إلا النذر اليسير على ما يحتويه المقطع من مآسٍ ومعاناة للمدنيين الذين تنهال عليهم القذائف من كل حدب وصوب!
إن هؤلاء، وبعضهم من يسمي نفسه بالثوري، لم يروا دماء المدنيين التي من المفترض أنها محمية بقواعد وقوانين دولية بذلك الفيديو، إنما لفت أفكارهم وأنظارهم وجود شخص مطلوب دولياً في حين كان من المفترض أن يسعى هذا الثائر لتبرير وجود هذا الشخص بالفيديو أو عدم إثارة الموضوع أصلاً.
عزيزي (الثائر الإتيكيت) المطبق لمعايير الجودة السياسية الدولية، إننا نحمل من مبادئنا وقيمنا في احترام المبادئ والعلاقات الدولية ما يُدرَّس إلى الآن في أعرق الجامعات العالمية، فمن المعيب أخلاقياً أن تثور أفكارك بهذا الشكل لمخالفة تصنيف أقرته إدارة لا تطبق القانون الدولي سوى على مزاجها وفي الوقت الذي يحلو لها، ومن السذاجة التي لا تليق بمبادئ الإنسانية التي تصدح بها هنا وهناك أن تحكم على شخص أو فعل حكماً لم يتقيد به من أطلقه أصلاً، فالولايات المتحدة تحالفت ودعمت شخصيات و تنظيمات كثيراً ما وصفتها بالإرهابية لتحقيق مصالحها التي هي فوق القانون الدولي، فلماذا نلتزم نحن بأصعب الظروف ولهذه الدرجة بذلك؟!
لقد أثبتت الوقائع أننا نعيش سياسة الغاب، وهذه المعايير رغم قيمتها التي يُطبل لها بعض السياسيين على حساب المصالح الوطنية ليست سوى مسوغات لتبرير عجزهم ومن أجل نموت بإنسانية.
إن هذه القواعد تُطبق بين الأقوياء فقط بما أن منطق القوة والصدام لا يصب في مصالح الدول الكبرى، ومن المتعارف عليه أن من يريد مناصرة رسالة أي قضية لن يهمه من هو ساعي البريد الذي أوصلها، بل المهم هو قناعته بندائها أو أهدافها، وبالأخص تلك التي تُنقل في الظروف المأساوية التي نعيشها، ومن يريد أن يغيثك لن يضع لك شروطاً كمن يريد أن يُطعم جائعًا ويطلب منه أكل الزيت بشوكة (الإتيكيت).
فالمأمول من منظري القوانين الدولية السورين وغيرهم ألا يلهثوا خلف جنازاتنا بربطة العنق لربطها على قميص الكفن، فنحن نكتفي بها على سعة أعناقكم.
ولعل بيت الشعر للأمام الشافعي أبلغ قصداً عندما قال:
وعينُ الرِّضا عن كلَّ عيبٍ كليلة … وَلَكِنَّ عَينَ السُّخْطِ تُبْدي المَسَاوِيَا