جاد الغيث |
صباح يوم أسود كان من أقسى وأصعب أيام حياتي، تستيقظ زوجتي لأداء صلاة الفجر، وقبل أن تكمل وضوءها وينهي المؤذن التكبيرة الأخيرة، يطرق الباب بقوة، طرقات عنيفة متلاحقة تفزع القلب، وتجمد الدم في العروق!
يهرع (يوسف) إلى غرفتي، وزوجتي يكاد يغمى عليها أو يتوقف قلبها!
دون أن أسأل من الطارق ؟ عرفت أنهم الأمن، كانت موجة الاعتقالات تستبيح شباب البلد، تقودهم إلى المجهول، إلى عتمة السجون، وتولع في قلوب ذويهم ومحبيهم نارًا لا تهدأ ولا تخبو ولا تنطفئ.
لم يكن أحد منا يتصور أبداً أن ذلك اليوم كان اليوم الأخير ليوسف بيننا، كانت تلك آخر مرة نرى فيها وجهه وابتسامته .
يا ليتني يومها فقدت بصري لتكون آخر صورة مطبوعة في قلبي عنه، صورته وهو بكامل حسنه ونضارته، لكن عيناي لم ينطفئ نورهما إلى لحظة موتي بعد أن رأيت صورته بين آلاف الصور، فتوقف قلبي.
أقل من ثلاث دقائق مرت كالبرق ودمرت كل شيء بغمضة عين، وجعلت السنوات التالية جحيمًا من انتظار لا يتوقف صوته عن ذكر ( يوسف)، أكثر من ثماني سنوات مرت، ولم تمر، كأن الوقت تجمد في مكانه، كل يوم مئات الذكريات تدور في رأسي، تلتف كحبل مشنقة على عنقي، ذكريات تخنق روحي، وأحيانا ترسم ابتسامة حزينة على وجهي ودمعة لا يمكنني مغالبتها.
ذكريات (يوسف) تحاصرني منذ يوم ميلاده، إلى خطواته الأولى، يومه الأول في المدرسة، نجاحه في الصف التاسع، يومه الأخير في البيت، وبين كل تلك الأيام الماضية يعلو صوته واضحًا كأنه أمامي، وتعود الحياة فجأة لصور بسيطة سريعة تمر في خاطري أعيشها معه بكل تفاصيلها، أشم رائحته، وأسمع أنينه، أترجم كلماته التي تصلني في المنام إلى أشواق وطلبات وحب وأشياء أخرى كثيرة لا تخطر ببال باقي الآباء.
ثماني سنوات مرت كانت الأقسى والأشد مرارة، فارقت زوجتي الحياة مات أملها في رؤية (يوسف) فماتت، كانت آخر كلمة على فمها (يوسف) ثم قالت: “تركته عندك يارب، لا إله إلا الله محمد رسول الله ..يارب” وانقطع صوتها وانقطعت أنفاسها.
أما أنا مع كل الآلام التي تقهر القلب وتفزع الروح من عذابات الناس والدمار المحيط بالبلد والتهجير والقصف والخوف، كل هذه الظلمات كان في آخرها نافذة حياة، نافذة فرح وهمي مؤقت، لي وحدي، كنت أشم من خيالها ريح يوسف وأتأمل وجهه النقي.
مرَّ العمر كئيبًا متأرجحًا بين انتظار السراب ووجع الغياب، حتى تسربت صور (قيصر)، كم من الأمهات والآباء والزوجات والأبناء، كم من الأخوة والأخوات وحتى الأصدقاء والغرباء تمزقت قلوبهم، وهم يتفحصون بدقة شديدة وجوهًا معذبة لم يعد لها روح أو معنى سوى بالرقم الملصق على جبينها، وجوه تشتت الروح، تنتزع القلب من مكانه وترمي به في سابع هاوية من القهر، وبينما كان الرجاء ينمو ليعيد لي شيئًا من بهجة الحياة، صارت مجالس العزاء تنشر رائحة الموت حولي وتعيد برمجة الألم أضعافًا مضاعفة، كل أب أو أم، كل أخ أو أخت، كل زوجة وابنة، صار العذاب عندهم ضعفين والوجع ينقسم إلى شطرين، وجع (الموت تحت التعذيب)، وهذه الجملة القصيرة أكبر من كل عذابات الكون، ووجع (الوجوه المشوهة) التي كانت في عز نضارتها وعافيتها، وجوه يعتصرها الأنين، أسنان مكسورة في أفواه كانت تكبر الله، عيون مقلوعة، هياكل عظمية مكسوة بجلد أزرق، شعر تساقط رعبًا، (14235) ماتوا بالتعذيب، حتى الأرقام أصبحت موجعة حين تكتب على الورق.
صور قيصر كأنها مزيد من التعذيب لمن بقي منا على قيد الحياة، أما أنا فنظرة واحدة لوجه ابني يوسف قتلتني في لحظة ونقلتني إلى رحمة الله.