إسلام سليمان |
لا أذكر تمامًا متى كانت المرة الأولى التي تعرفت فيها إلى قصة السيد عادي الشهيرة، التي مفادها “أن هناك شخصًا يدعى عادي، ولد بشكل عادي، ودرس بمدرسة عادية، ودخل وتخرج من الجامعة بشكل عادي، وتوظف بوظيفة عادية بمرتب عادي، ثم تزوج من امرأة عادية وأنجبت أطفالاً عاديين، وكان أبًا عاديًّا وربَّى أطفاله بشكل عادي، ورحل عن الدنيا بشكل عادي. وتختم القصة بالجملة الشهيرة؛ فكم من الناس جاؤوا إلى الدنيا ورحلوا عنها بشكل عادي؟!”
هذه القصة أصبحت مثالاً يضرب بين الحين والآخر، لشحذ همم الآخرين، وتشجيعهم بحسن نية على أن يكونوا ذا أثر في هذه الحياة وألا يكونوا عاديين في طريقة عيشهم.
وسؤالي هنا، ما الذي كنا ننتظره أن يحصل لكي يكون هذا العادي الذي لا يعجبنا غير عادي؟
هل كنا ننتظر أن يولد بتشوه خَلقي أو بمرض حتى يولد بشكل غير عادي؟
هل هناك من داع لإيراد الإحصاءات التي تذكر فيها أعداد الأطفال المحرومين من المدرسة لأسباب شتى ومؤلمة كي نكفَّ عن وصف دخول عادي إلى المدرسة وتخرجه فيها بشكل عادي؟
ماذا عن الحياة الجامعية التي باتت حلمًا بعيدًا للآلاف من الشباب الذين وقفت الظروف القاهرة أمام التحاقهم بمجرد جامعة “عادية” وإتمامهم لتخصص “عادي”؟!
لا داعي لذكر نسبة البطالة المنتشرة في مجتمعاتنا أيضًا التي يبحث فيها الكثير عن وظيفة “عادية”، بمرتب “عادي” ليأمنوا لقمة عيش زهيدة تقرُّ بها أعين أطفالهم التي ذبلت بكاء من الجوع والحرمان.
أما عن زواج السيد عادي الذي لم يعد يروق لنا بحيث أننا ننعته “بالعادي”، فأحب أن أستحضر صورًا من مجتمعنا، حيث العديد من الشباب يعزفون عن الزواج لأسباب كثيرة أهمها الحالة المادية التي تجعل من الزواج “العادي” لديهم من المستحيلات!
أما عن أطفال السيد عادي المسمين “بالعاديين” أيضًا، ربما كان يجب أن تكون حياتهم مليئة بالمشاكل العائلية أو بالحرب والفقر الذي يشتتهم ويسبب لهم الحرمان من التربية “العادية”، فتكون حياتهم غير عادية!
وفي النهاية أيضًا رحل السيد عادي بطريقة “عادية” عن هذه الحياة..
ربما كان عليه أن ينتحر، أو أن ينازع المرض حتى الموت، أو يُقتل تحت التعذيب في السجون حتى تكون موتته أيضًا غير عادية بالنسبة إلينا!
هذا هو السيد عادي الذي أصبحنا نتجنب أن تكون حياتنا “عادية” مثله! في حين إنه لم يذكر أي تفصيل من حياته جدير بجعله مقياسًا لاتخاذه مثالاً وعبرة لأن نكون مثله أو لا نكون.
ربما كان مؤلف القصة مصيبًا في طرحه لو أنه ذكر في قصته التحديات والصعاب التي واجهت السيد عادي وردود أفعاله تجاهها.
في الحقيقة إنْ نظرنا إلى القصة من أبعاد أخرى، لوجدنا أن المسمى فيها أيضًا غير موفق، فليس هناك ما يسمى بالحياة العادية في ديننا الحنيف، إنما هناك حياة اللهو والعبث، أو الحياة الصالحة.
فالأولى تشير إلى من يعيث في الأرض فسادًا وتكبرًا وعلوًا، أما الثانية فتشير إلى من كانت أعماله تتمثل في الإصلاح وإعمار الأرض من خلال خُلقه وعلمه وعمله.
فالأول من يجب أن تُضرب قصة حياته بدلاً من قصة السيد عادي مثالاً في اجتناب الحياة العابثة اللاهية لا الحياة “العادية”، التي هذه الأخيرة أيضًا أصبحت في زماننا حلمًا بعيدًا بالنسبة إلى العديد من الناس.
الحياة غير العادية، أو إن صحَّ التعبير “المميزة” التي يسعى الجميع إليها هي التي تتمثل في الأشياء البسيطة التي لا نلقي لها بالاً في الكثير من الأحيان، كإماطة الأذى عن الطريق، والكلمة الطيبة، ومسحة يد على رأس يتيم، وابتسامة تُرسم على وجه حزين، وخدمة بسيطة تُسدى لقريب أو غريب، ونصيحة تُقَدم لحائر، وصدقة تُعطى لفقير، وإتقان وتفانٍ في العمل يصنع التغيير.. وغيرها العديد من أفعال بسيطة تترك أثرًا كبيرًا..
فلنتوقف عن رسم حياة الآخرين وحدّها عبر قصص مضمونها وطرحُها خاطئ، بل على العكس فهي تكاد تكون سببًا في اليأس والفتور الذي يصيب الغالبية دون وعي، فيتولد في أنفسهم أن ولادتهم ودراستهم وزواجهم وحياتهم كلها لا فائدة منها وأنهم أقل من الجميع.
ولتكن حياتنا في مراحلها المهمة كالسيد عادي ولا ضير في ذلك، لكن لنضفي عليها أيضًا من لمسات العطاء والفضيلة والإحسان ما يجعلها ذات علامة فارقة ومميزة عن الآخرين.