جاءت موسكو باتفاق أستانة بعد صحوتها من سكرة أنخاب الفودكا على أطلال مدينة حلب المدمرة وقصف الأسد للمدنيين في خان شيخون بأسلحة كيمائية، وذلك عندما أعلن ترامب عن رغبته بإقامة مناطق آمنة تكون ملاذا آمنا للمدنيين من أتون الحرب الدائرة، وللحد من موجات الهجرة.
حيث أعلنت موسكو في الرابع من أيار عن اتفاق روسي تركي إيراني يهدف للحد من وتيرة الاشتباكات في أربع مناطق سورية، وذلك بضغط روسي على كل الأطراف.
كان هدف بوتين من هذا الاتفاق هو قطع الطريق على الإدارة الأمريكية الجديدة التي بدأت بالخروج عن براغماتية إدارة أوباما “ترك الحبل على غاربه لآلة البطش الروسية في سورية”
بل وتعمدت موسكو تغيير اتجاه بوصلتها العسكرية نحو البادية السورية وريف حلب الشرقي من أجل انتزاع الذرائع التي تقدمها السي أي أيه والبنتاغون عن صلاتها بتنظيم داعش وحجم جرائمها المرتكبة، ولتستطيع في الوقت نفسه الاستيلاء على مناجم الفوسفات وآبار النفط السورية هناك، وقد زادت من وتيرة هذا التوسع عندما التقت مع المصلحة الإيرانية بفتح ذراع برية مع الأراضي العراقية.
بهذا الاتفاق أستطاع ثعلب الكي جي به التسويق لعملية سياسية روسية في العاصمة الكازاخية بعيدا عن عيون الأمريكيين والدول الغربية من خلال عملية تبادل مصالح مع دول الاتفاق “المؤثرة بشكل مباشر” بحيث يكون هذا الاتفاق في أي وقت يعتبره بوتين لحظة حاسمة سلاحاً روسياً في مواجهة أي تحرك فعلي عسكري أو سياسي أمريكي
غير أنَّ الشراهة الإيرانية للوصول إلى الحدود الأردنية والإسرائيلية للحصول على مكاسب جيوسياسية وعسكرية على الساحة العالمية (الملف النووي) والإقليمية (زعزعة استقرار الخليج العربي) دفعها لإطلاق معركة حسينية باتجاه المناطق المحررة في الجنوب الغربي وضعت الموقف الروسي في خانة ضعف أمام المجتمع الدولي و العملية السياسية التي تبنتها موسكو، فوجدت الإدارة الأمريكية بذلك فرصة للبدء بدخول قوات التحالف من الجنوب لحماية (دول حليفة) سرعان ما التفَّ عليها بوتين باتفاق مع ترامب في هامبورغ لاحتواء الامتعاض الإسرائيلي والخشية الأردنية، وفي الوقت نفسه وجهت موسكو صفعة مؤلمة لإيران وحزب الله من خلال قاعدة حميميم الجوية، حيث خفضت من إسنادها الجوي لمعركة الجنوب، ولمَّحت عبر صفحتها في الفيس بوك أكثر من مرة عن احتمالية فشل الهجوم بسبب عدم التنسيق بين الحلفاء (الرجوع لروسيا في أي عمل )
إنَّ نهج الكرملين بالتعاطي مع الملف السوري من خلال رفع سقف التصعيد العسكري والدبلوماسي بشكل يتعدى حجم الثقل الروسي، ومن ثم اللجوء لهدن واتفاقيات خفض التوتر، مكَّنه من تطبيق سياسة شعرة معاوية في ساحة السياسة الإقليمية والدولية في مواجهة كلِّ الأطراف لتحقيق أكبر قدر ممكن من المصالح السياسية والاقتصادية والعسكرية.
كما أنَّ صفة الوجود الشرعي في سورية للروس منحهم أمام الساحة الدولية أن يكونوا طرفاً في أي اتفاق، وهو ما يتم التحضير له بين موسكو وواشنطن لإنشاء منطقة خفض تصعيد جديدة في ريف حمص وحماة المحاصر، إذ ليس لموسكو مصلحة فيه سوى كونها طرف ضامن، وبما معناه أنَّ لها اليد العليا في سورية.
كما أنَّها حققت رهانا جوهريا باتباعها أسلوب المفاوضة على خفض التصعيد وهو تشتيت المعارضة عبر عزلها وتقسيمها إلى جزر سياسة وعسكرية يسهل ابتلاعها عند الضرورة من خلال تحريك أدواتها، أو المساومة على وجودها بمكاسب لم تخسر عليها سوى الذخائر مدفوعة الثمن، بالإضافة لورقة تمنحها شرعية الوجود ولمدة 49 عام.