جاد الغيث
في اليوم الأخير للقصف الوحشي لمدينة حلب الشرقية كنت أنا آخر شهيد! لم يتعرف عليَّ أحدٌ من الناس حولي.
القذيفة الأخيرة اختارتني شهيداً فشوّهت وجهي وتركتني وحيداً، ولم يكن هناك أحدٌ من أهلي ليتعرف عليَّ من ملابسي، ولكني يومها عرفت الكثير من الأشياء المؤلمة وشكرت الله أنني لم أعد على قيد الحياة!
أكثر ما كان يعذبني مرورهم بجانبي وكأنني قطعة خشب مرميّة على طرف الطريق أو كأنّي شيء بلا قيمة أو كأني لا شيء!
كنت ممدداً على رصيف المشفى الوحيد المتبقي لمدينتي، وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة وتودع أهلها بحزن وقهر لا يمكن وصفهما!
كنت شاهداً على انشغال الناس في الرحيل عن حلب، وخوفهم من خرق الهدنة التي سمحت لهم بالخروج سالمين، كانوا كخليّة نحلٍ تسعى مذعورة في كل اتجاه، الكل يريد الوصول إلى معبر النجاة ولو كان ثمن ذلك السير على جثث الأصدقاء والأهل!
لم يعبأ بوجودي أحد، حيث جسدي كان مغطى بقماش مهترئ، ووجهي مشوه وصوتي مخنوق، ولكن فرحتي كانت عظيمة فأنا استعدّ للرحيل لجنة الخلد، وكل من حولي يستعد للرحيل إلى شقاء جديد قد يقصر أو يطول!
البؤس والخوف كانا مرسومين في تفاصيل جميع الوجوه حولي، وحتى الصغار بدت وجوههم بائسة ومليئة بتجاعيد القهر والذعر!
سيرحل الجميع من هنا، ولن يبقى إلا الدمار وصدى الذكريات وأنا!
وأخيراً رآني أحدهم ونادى: ” يا شباب ساعدوني لندفن هذا الشهيد”.
لم يكن هناك شباب، الكل قد هرموا وماتت قلوبهم قبل استشهادي بقليل، ولذلك لم يسمع النداء أحد ولم يلتفت أحدٌ للمنادي!!
كرر الرجل النداء: ” يا شباب ساعدوني لندفن هذا الشهيد”.
ولكن لا حياة لمن تنادي!!
ومرة أخرى لم يسمع أحد ولم يلتفت أحد إلي!
أرجل أكثر من أن تحصى كانت تمر بجانبي، اسمع صوت ضرباتها على الأرض المقهورة، واستغيث من كل قلبي بالله أن يرحم هؤلاء العابرين ويجعل رحيلهم ميسراً آمنا.
وابتلع طريق العذاب الطويل جميع العابرين، ولم يبقَ سواي على الرصيف، ممدداً بجوار أشياء مرمية؛ بطانيات من الصوف تفوح منها رائحة الدم، وأكياس سيروم فارغة ونصف ممتلئة، وجوارب ملطخة بالطين، وأحذية قديمة تركها أصحابها، وأصوت أنين تعلو وتنخفض من صدى المكان الذي كان شاهداً على وحشية الإنسان وبشاعة القتل والحرب والدمار.
الجميع رحلوا ولم يبق إلا أنا شهيداً ممدداً على رصيف مشفى القدس الحزين!
الجميع رحلوا وغابت عني أصواتهم وضربات أرجلهم على الأرض!!
لم أعد اسمع أي شيء، حلَّ فجأة سكون غريب ونور عجيب راح يضيء المكان، مضيفاً إليه بهجة وحبور، وشعرت حينها بسرور وانشراح، وروحي بدأت تعلو رويداً رويدا للسماء!!
كانت هناك من بعيد أصوات دعاء، وكأنني سمعت من بينها صوت أمي، والآن اسمع بوضوح صوت أبي، وميزت أيضاً صوت أخي بهاء وأختي وفاء!!
يا إلهي أنا بينهم الآن في جنة علياء، لا صخب فيها ولا شقاء، لقد وصلت سالما لدار البقاء، بينما رحل أهل مدينتي إلى حياة جديدة وتشردوا في كافة الأرجاء!!
رحلوا جميعاً وتركوا جسدي الميت وحيداً يأكله البرد على رصيف مشفى مهجور مقهور، وصرت بذلك شاهداً وشهيداً بلا صوت على موت مشاعر الناس، وهذا بحد ذاته موت أبشع من كل أنواع الموت!!