جاد الغيث |
كنت في بلدة (أورم الكبرى) وقت الغروب، والطريق الذي أنا فيه يبدو خاليًا من العابرين، ونسمات هواء منعشة تهب في الأيام الأخيرة لشهر أيلول 2018. قررت المسير باتجاه بيتي في قرية (الشيخ علي)، مرت عشر دقائق وأنا أحث السير مخافة العتمة التي بدأت تنتشر حولي، حينها توقفت بجانبي دراجة نارية يقودها شاب أسمر نحيف عيناه عسليتان متقدتان، فيهما فرح وحزن وبريق وحب كثير، بعد السلام صعدت خلفه، ودون مقدمات بدأنا الكلام كأننا أصدقاء منذ عهد بعيد.
(أبو عبيدة) من (زملكا) تلك المدينة الطافحة بالحياة والتي دمرها نظام الأسد وشرد أهلها، استشهدت والدته بعد غارة جوية ليلية، أسفرت عن خراب جزء من بيتهم والمصنع الصغير الذي كان يملكه والده، ونجا بقية أفراد الأسرة بأعجوبة، وصارت الحياة بعد ذلك اليوم أشد قساوة ومرارة، وبعد التهجير، وصل (أبو عبيدة) مدينة إدلب وحيدًا، لعدم استطاعة أبيه مغادرة (زملكا)، إذ رمَّم بيته وتزوج من إحدى قريباته وبدأ من جديد حياة أقسى ما فيها ذل المرور على حواجز النظام المنتشرة في المدينة لتذكر سكانها بأنهم إرهابيون خربوا بيوتهم بأيديهم.
ولكن ماذا سيعمل (أبو عبيدة) في إدلب؟! سؤال لم يسأله يومًا لنفسه، فقد كان صانعًا ماهرًا في مصنع الأقمشة القطنية الذي يملكه والده، وكان دخله الشهري ممتازًا بالنسبة إلى شاب في مثل عمره.
في ساحة الساعة بمدينة إدلب وجد ضالته، هناك التقى بشبان مهجرين مثله اختاروا مهنة (بائع البسطة)، بعضهم يفرش الأرض بالملابس المستعملة، والآخر يبيع الأواني المنزلية، وبعضهم يبيع العطور، وهناك أمام عربة صغيرة، يقف رجل موهوب في صبّ الرمال الملونة داخل الزجاجات الفارغة ويرسم علم الثورة ويكتب لك اسم مدينتك أو حبيبتك، فاختار (أبو عبيدة) الوقوف بجانب ذلك الرجل ليبيع الورود وأزهار النرجس.
مهنة لا تكفيه ليحيا حياة عزيزة كما كانت حياته في (زملكا)، لكنه كان يستمتع برائحة الأزهار وابتسامة المحبين وهم يتبادلون الورود في غفلة عن عيون الصواريخ الحربية التي قد تسقط في أي لحظة، خاصة على الأسواق والساحات العامة في مناطق الثوار، وهذا ما يزيد من معاناة الباعة الجوالون الذين يحزمون أرواحهم مع بضائعهم ويتجهون لبيعها في مناطق لا تسلم من القصف والانفلات الأمني.
مرت أيام جميلة مطيبة برائحة النرجس قبل أن تتلطخ أزهار (أبو عبيدة) بدماء الأبرياء الذين استشهدوا في انفجار عبوة ناسفة قرب مكان وجوده، حدث ذلك بعد ظهر يوم الثلاثاء 20 نيسان 2018، استشهد يومها ثلاثة شهداء وأُصيب العشرات بجروح، تبعثرت الأزهار على الأرض واختلطت بالدماء والرمال الملونة والزجاج المحطم، ونجا (أبو عبيدة) بلطف الله تعالى، فقط أُصيب بجروح ما تزال آثارها على جبينه ويديه.
ترك إدلب متجهًا للعمل في مكان أقل خطرًا فاختار العمل في محل لبيع (الشاورما) على طريق رئيس، المحل بعيد عن السوق في منتصف المسافة بين بلدتين مأهولتين في الريف الغربي لحلب، يقف (أبو عبيدة) عشر ساعات متواصلة أمام (سيخ الشاورما) مُلبيًا طلبات الزبائن مقابل ألفين ليرة سورية باليوم!
كل يوم يُعيِد (أبو عبيدة) ترتيب أولوياته مختصرًا الكثير من المصاريف، خاصة بعد أن أقلع عن التدخين وتوقف عن شرب الكولا.
يُفكر في إكمال تعليمه، ويُفكر في زوجة تشاركه أعباء الحياة، ويُفكر أحيانًا بالعودة إلى (زملكا)، ويفكر بإخوته الصغار، يشده الشوق لرؤية وجه أبيه الباكي، تشده أحلامه للعودة طفلاً صغيرًا يمرح في حديقة الحي مع أولاد الجيران، يشتاق إلى معانقة قبر أمه الشهيدة.
تختلط الصور ببعضها في مخيلة أبي عبيدة، وتمتزج برائحة الشواء من أمام سيخ الشاورما ليعود إلى الواقع مستنفرًا كل طاقاته مع صوت طائرة حربية كانت تعبر الأجواء.