عبد الله عتر |
حين حسمت سورة الشورى أن الرسول ليس وكيلاً مُسلطًا على اختيارات الناس، حسمت في الوقت نفسه أن حريات الناس محمية بالوحي، هذا ما أشار إليه المفسرون عندما تفكروا في الآية السابعة: ((الله حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ (6) وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا)).
كلمة سر الحكاية هي (كذلك)، أي: كما أوحينا إليك أن الله حفيظ على الناس ولست وكيلاً عليهم، أوحينا إليك قرآنًا عربيًا، فالحريات والقرآن كلاهما وحي، بعبارة أخرى: الحريات وبقية تعاليم القرآن كلها وحي من الله. فماذا يعني هذا الربط والمماثلة بين حرية الاختيار والوحي القرآني؟
مع الحرية معرفة وحكمة..
أولى النتائج لذلك الربط أن ممارسة الحريات تحتاج قدرًا من المعرفة والحكمة، هذه الحكمة والمعرفة نزل الوحي لتوسيعها وتسديدها، وإلا انقلبت الحرية أداة طائشة تضيق الحياة على صاحبها بالدرجة الأولى، فكلما اتسعت العقلانية في الاختيار اتسعت معها الحريات. ولا تعني الحرية الاختيارات الخرقاء والعيش بطريقة بلهاء تدمر حياة صاحبها وتدخل البؤس على حياة من حوله، بذريعة أنه حر في حياته.
لهذا السبب فإن الفقه الإسلامي والقوانين الوضعية تمنع الطفل الصغير ابن الخمس سنوات من التصرف في ماله دون إذن وليه؛ لأن الحرية المالية المعطاة له في هذا العمر حرية وهمية لا يستطيع أن يستخدمها، كونه لا يملك الوعي الكافي لذلك.
شاهدت منذ فترة حلقة حوارية بين مذيع شاب وفتاة في المرحلة الثانوية وأمها جالسة بجوارها، الأم والبنت مسلمتان تعيشان في دولة أوربية، سأل المذيع الأم: هل تمنعين ابنتك من الخروج وحدها ليلاً؟ فأجابت: نعم، لأن هذا يعرضها للخطر، التفت المذيع إلى البنت فسألها عن رأيها فأجابت أنها موافقة على قرار أمها وتؤيده، جن جنونه وحاول مراراً أن يبرهن أن هذا المنع ينتهك حرية البنت، وكانت حجته: “هذا تقييد لحرية الاختيار ولو كان فيه مصلحة للبنت”. إنه في الحقيقة يتبنى تصوراً أعمى للحريات بأنها مجرد الاختيار، بغض النظر عن مدى عقلانية الاختيار، وكأنه يقول: “المهم أن يختار الناس بحريتهم ولو كانوا معصوبي الأعين”!
التعليم وسيلة تحرر مباشرة
علينا أن نفكر مليًا كلما دفعتنا الحياة كي نأخذ قرارًا في شيء ما؛ هل لدينا معرفة كافية عمَّا سنفعله بحريتنا؟ ماذا لو استخدمنا حريتنا بطريقة تلحق الأذى بأنفسنا أو بغيرنا ونحن نظن أننا نحسن صنعًا! من هذا المنظور يبدو التعليم مدخلاً حاسمًا لتوسيع الحريات وتمكينها عند الناس، فهو يجعل ممارسة الحرية أكثر عمقاً وانفتاحاً، رغم أنه في نفس الوقت يجعل صاحبه يستبعد عدداً من الخيارات التي كانت متاحة أمامه لو كان جاهلاً، فالعقل يمنع صاحبه عن أخذ الخيارات الحمقاء ويحصره في الخيارات الأكثر حكمة.
مهمة البلاغ لا تنفي نظام الحريات
إحدى النتائج الاجتماعية لربط حرية الاختيار بالوحي هي التأكيد على أن الاثنين يمشيان على سكة واحدة، وينبغي أن نفهم أن التشريعات والنظم العملية والعقوبات المحددة للجرائم وأحكام المعاملات أنها تنسجم مع تنظيم الحريات ولا تتعارض معها، فهي تضع خريطة لحركة الحريات في الحياة الحقيقية حيث تزدحم حريتي وحريات الغير، أو حيث أستخدم حريتي في تدمير حياتي وإمكاناتي الشخصية.
خاطب القرآن للرسول -صلى الله عليه وسلم- أنك ((مَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ))، وأن مهمتك ((إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ))، بعض الناس يفهمون من هذا الخطاب أن الرسول مجرد واعظ أخلاقي يذكر الناس بالله والآخرة وينصحهم بفعل الخير، وأن الإسلام دين من ديانات الحد الأدنى لا تشريعات فيه. هذا الفهم مثقل بالأخطاء والخوف، فيكفي أن نستعرض سيرة الرسول لنكتشف طبيعة مهمته في البلاغ، فحين كان يخبره الوحي أنه ليس بوكيل ولا مسيطر على الناس، لم يتوقف عن إقامة الحدود وتسيير الجيوش وإلزام الناس بأحكام المعاملات ومنع الربا والقضاء الصارم، وغيرها من التشريعات والتدابير العملية التي تضبط حياة الجماعات.. لم يتعدَّ النبي مهمة البلاغ حين كان يفعل ذلك، لكن البلاغ الذي فهمه الرسول لم يكن من نوع “البلاغ البارد”..
فأن تكون نذيرًا مبلغًا ليس لك على الناس وكالة وسيطرة لا يعني أن تكون مجرد واعظ أخلاقي، رغم أهمية ذلك، بل يمكنك أن تكون رجل دولة وقاضيًا قويًا وشرطياً حازماً وجابي ضرائب وسائس سلطة دون أن تتجاوز حدود البلاغ. والسر كامن في نظام “الشورى” التي تضمن أن يحدث كل ذلك دون انتهاك لحريات الناس، وأن يحدث بما يوسع الحريات المرتبطة بالمصالح.
عالمية مؤسسة على الحرية
((وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا)).. فهِم المفسرون من هذه الآية أن القرآن خطاب موجه لسكان الأرض.. للعالم كله، هذا التأكيد هنا يجعل الإسلام يراعي الديانات التي ستعيش في بلاد المسلمين، وترتيبات المسيحيين جزء من هذا التشاور العالمي المتجاوز للمسلمين، وهو يضع الشورى في أفق عالمي، فهي صالحة لتنظيم شؤون العالم لا فقط شؤون المسلمين، وهي تدار على أرضية الاختلاف، فيكون فيها ترتيبات قادرة أن تحفظ حريات الاختيار للجميع.
ترسم الآيات الجغرافية التي يخاطبها القرآن ويوجه إليها الرسول وأمته بأنها جغرافية العالم وسكان الأرض، وهذا أمر مخيف إن لم يكن مُؤسسًا على مبادئ الحريات؛ لأنها قد تدفع أتباعها إلى الطغيان واحتلال العالم بذريعة أنه تنويرهم رَغمًا عنهم، وإكراههم على اعتناق ما نراه صحيحًا ونافعًا لهم.. لم يكن من الممكن أن يحدث هذا في سياق العالم الإسلامي، فهذا العالم مُؤسس على مبادئ فائقة الدقة، ولعل هذا هو السر أن جاءت آية “نفي الوكالة وحرية الاختيار” قبل آية “التوجه للعالم”.