جاد الغيث
حاولت الاقتراب أكثر ولكنني لم أستطع، من بعيد كنت أراقب وقلبي ينفطر ألماً، قرأت بوضوح كلَّ معاني الوجع التي ارتسمت على وجه المرأة التي لم تتجاوز الثلاثين بعد، ومن بعيد استطعت أن اسمع كلَّ تغريدات قهرها وحزنها عبر صوت مبحوح ممزوج بدموع مالحة حارقة.
وقبل أن تكمل جمع أشلاء زوجها في كيس أبيض مزود بسحاب متين، جاءت الأم المنكوبة بوحيدها، تتهاوى في عباءتها السوداء كأنَّها شبح ميت فقد الحياة منذ عشرات السنوات، سيدة نحيفة طويلة معجونة بماء الصبر، ما زال صوت بكائها يحفر في أرض ذاكرتي خطوطاً طويلة عميقة، ويبذر فيها بذور الحزن الأبدي، صوت واضح واثق ممزوج بالدعاء وكلمات الوداع: ” الله يرضى عليك يا ولدي، ربي يجعلك في جنة الخلد يا ولدي، باكراً رحلت يا سندي، يا رب.. يا رب …يا رب …أهديتك ولدي”.
كلمات تبكي الصخر الأصم وأنت تسمعها بلحن صوت الأم المفجوعة، بعد أن هوى برميلٌ متفجرٌ على مشفى قديم لم يبق منه سوى رصيف، فلا مقعد فيه ولا طبيب ولا مضيف، فقط أكياس بلاستيكية ملطخة بالدماء، مزودة بسحاب متين لتغلق على أشلاء الضحايا وتحتويهم بحنان!
لا كفن للشهداء هنا، ولا قبلة وداع على الجبين، فالرأس مهشم والجسد مبعثر، وقد لا تكون كل الأعضاء لنفس الشهيد!!
علا صوت النحيب، والزوجة والأم المفجوعتان تتقاسمان تركة شهيديهما، وأشلاء حبيبيهما:
“هذه يد زوجي ما زال خاتم زواجنا في أصبعه المتورمة يرفض الخروج،
وهذه قدم ابني؛ قدمه صغيرة، وما زال حذاؤه البني الملطخ بالدم عالقاً بالقدم، لا هذه ليست أصابعه، أظافره دائماً مقصوصة، وهذه الأصابع أظافرها طويلة، كأن صاحبها لم يقصها منذ أسابيع عديدة!
انظري يا ابنتي كأن هذا الفخذ لزوجك!
لا يا أمي ليست له، لعله لشهيد آخر!”.
كلمات كلما استرجعتها تغيب شمس النهار فجأة، ويخنقني ليل طويل كحبل المشنقة وأنا أتابع في ذاكرتي المرهقة من زحمة التفاصيل الموجعة، أتابع مشهد الأم والزوجة وهما تتقاسمان أشلاء روحيهما! وتمضيا بعيداً بعد أن عانقت إحداهما الأخرى وانفجرتا في بكاء طويل يشبه العويل!
لم يحدث هذا في أي مكان في العالم إلا هنا في مدينة غرقت بالدم، وفاضت أزقتها بالحزن والبؤس والذعر!!
مدينة تشهد حجارتها وأشجارها وطيورها الميتة، وقططها الجائعة، وهواؤها المخنوق بغاز القهر أنَّها أخطر مدينة في العالم.
إنَّها حلب الشرقية مدينتي وهويتي وروحي وتاريخي من ماضٍ وحاضر ومستقبل، فيها بيتي ومقعد مدرستي، وحقيبتي الصغيرة التي حملتها في يدي وقلبي يوم ذهبت بخطواتي الأولى إلى روضتي.
والآن بعيداً عنك يا أمي أعود إليك في خيالي بين لحظة ولحظة، أعيد بناء ما تهدم منك، وأمسح دموع حجارتك، وأروي بدموعي زهورك اليابسة لتبقي دائماً مثواي وجنتي.