سيرين المصطفى |
بناء على طلب صديقتي توجهت لتغطية حفل ترفيهي للأطفال، وما إن وصلت رأيتها جالسة تعزف على الغيتار وحولها الأطفال يحركون رؤوسهم منصتين للموسيقى بسعادة، جذبني المنظر فجلست معهم ونسيت التصوير، وأخذت أُنقل ناظري في أرجاء القاعة، متأملة الأسلوب الأنيق الذي رتبت فيه، فكانت جدرانها مليئة بالورود، وباللوحات المرسومة من قبل الأطفال، أما على السقف البالونات والزينة، بينما في البهو كانت الهدايا المغلفة والألعاب، بثَّ ذلك الجو الطفولي البريء في نفسي السكينة، فنسيت مهمة التصوير.
إلا أن صديقتي طرفت بعينها اليمنى مشيرة بإصبعها نحو الكاميرا، فبدأت أصور الأنشطة المقامة، ثم جاء دور اللقطات المتعلقة بالمكان نفسه، فبدأت أتجول في أرجائه حتى وصلت إلى الرسومات، فصعقت بها، لأنها كانت عبارة عن تلخيص لبعض مراحل المعاناة التي مرت بها مناطقنا خلال الحرب، على الفور أشحت وجهي متجاهلة إياهم، قاصدة تصوير أشياء غيرها، لكن أوقفني نداء طفلة واقفة بجانب اللوحات، تطلب مني أن أصورها وهي تتحدث عن لوحتها.
فلم يطاوعني قلبي على ألا ألبيها، فعدت إلى لوحتها التي تضمنت مدرسة بنية وحولها أشجار خضراء، وفوقها سماء زرقاء تحلق فيها طائرة سوداء. وعن حكاية الرسمة تسرد تلك الطفلة وهي تضع يدها الصغيرة على رسمتها: “هذا الموقف صار معنا منذ أشهر، كنت قاعدة مع رفيقاتي في الصف، وفجأة قصفت الطائرة مدرستنا”، ثم ذكرت تلك الصغيرة أن هدفها من تلك الرسمة أن تري العالم أن النظام لا يقصف إرهابيين كما يدعي، إنما أطفال أبرياء يتعلمون، شعرت كأنني أكلم فتاة عشرينية لا طفلة، لم أتوقع أن الحرب ستفتح عقول الأطفال على هذا النحو، ثم أتى رد مفاجئ أكثر من طفلة شقراء ذات عيون عسلية اسمها لمى: “أنا ما زعلت وقتها، تخيلت أني سأموت وألتقي بابا بالجنة، انبسطت لأنه مضى زمن ولم أره، اشتقت إليه كثيرًا” إلا أن ذلك لم يحدث، لقدوم والدتها بسرعة ومن ثم أخذها إلى المنزل.
أعادني كلام الطفلتين إلى حالة التعب التي كنت عليها. لم يمر بخاطري أن ذِكر الحرب سيصادفني في مثل هذه الفعالية، لكن لم أتوقف، وأكملت الحديث مع بقية الأطفال بشأن لوحاتهم وعدستي تصورهم، فذاك الذي رسم دبابة وجنديًّا مضرجًا بدمائه، وآخر رسم طائرة تقصف أناسًا ذاهبين إلى السوق، وسبب رسمته أن والده استشهد في معرة النعمان ضمن ظروف مشابهة.
وتماثل الحال في بقية الرسومات التي جسدت تفاصيلاً من الحرب، لكن كان هناك شيء مختلف في لوحة محمد صحاب العشرة أعوام، إذ تضمنت لوحته جَمعة من الناس، فسألته عن المقصد فقال بابتسامة رقيقة: “هي العالم مبسوطة عبتحتفل بتحرير سورية”.
عاد الأطفال إلى أنشطتهم التي أظهرت تأثير الحرب عليهم سواء باسمها أو بطريقة تقديمها إضافة للهدف منها، انطلقت الموسيقى ليصعدوا جميعًا على خشبة مرتفعة قليلاً عن الأرض ويبدأوا بالغناء.
بعد أن انتهت الأغنية بدأ كل طفل يخبرنا أمنيته، فمنى تريد أن تصبح طبيبة لتعالج المصابين، وناديا مهندسة عَمَار لتبني ما هدمته الحرب خلال السنوات الماضية، بينما رُبى تريد أن تكون معلمة لأنها تحبُّ معلمتها، كلُّ الأماني كانت تدور حول الحرب لكن من زاوية متفائلة.
بعد هذه التجربة أدركت أنه من المحال أن نهرب من الوضع الذي نحن فيه، لكن مايزال الأمل مزروعًا فينا في الوقت نفسه، أما بالنسبة إلى بلادنا، فستعود يومًا إلى سابق عهدها، وذلك ما عكسته أمنية محمد الذي قال: “رح صير فلاح ماهر، وبدي أزرع سورية بالورد والحنطة وشجر التين والزيتون لتصير بتجنن”.