بغريزة الأمومة تحمل الطفلة دميتها وتلاعبها كابنتها وتمثل دور الأم، وهي في سنينها الأولى، فكيف إذا أصبحت هذه الطفلة أماً حقاً؟! هل ستكون قادرة على لعب هذا الدور على أرض الواقع؟!
“الأمومة المبكرة”
هذه الظاهرة منتشرة بكثرة في المدن والأرياف لاسيَّما في السنوات الأخيرة نتيجة مجموعة من العوامل لعلَّ أبرزها الحروب والصراعات التي لم تجلب الدمار للبنى التحتية والفوقية فحسب، بل ساهمت في خلخلة النظام الأسري، وزادت نسب حالات زواج القاصرات، حيث يقبل الأهالي على تزويج بناتهم صغاراً إمَّا خلاصاً من الفقر والوضع المادي المتردي، أو تماشياً مع عادات بدافع الستر والخوف من شبح العنوسة، فيقع الأهل في مصيدة الزواج المبكر الذي بدوره سيولد أمومةً مبكرةً ومسؤوليةً كبيرةً تقع على كاهل الفتاة قبل أن يشتدَّ عودها وتكون جاهزةً للحياة الزوجية بكل تفاصيلها، حينها تدخل عالم الأمومة الذي يحتاج إلى قدرٍ كافٍ من الوعي والنضج النفسي والجسدي معاً، فماذا تصنع تلك الفتيات الصغيرات اللاتي سُرقت ألعابهنَّ مبكراً وأُبدلت بطرحة عروس وفستان زفاف، ومن ثمَّ ثوب حملٍ وسرير؟
كانت المعاناة في السابق أقل وطأةً كون الفتاة المتزوجة تحظى برعاية عائلتها، وتحمل والدة الأم أو الأب عبئاً كبيراً يهوِّن المرحلة على الأم الصغيرة التي وجدت نفسها فيها أمّاً لكنَّها تحمل قلبَ وعقل طفلة لم تكبر بعدُ.
في حين ازداد الأمر سوءاً في الغربة، حيث الفتاة وحيدة بعيدة عن أمها التي هي مصدر معلوماتها ومرجعها الأول، فتساعدها في مراحل حملها وولادتها، وتشرف على التعامل مع المولود الجديد، وتُدلي لها بنصائح، وتقصُّ عليها خبراتها وحكمتها التي ورثتها عن أمها، ليصبح كل ذلك منهاجاً تتعامل فيه الأم الجديدة مع أطفالها.
تعتبر مرحلة الحمل في سنٍّ مبكرٍ من أخطر المراحل وأكثرها حساسية نظراً للتقلبات الفيزيولوجية والنفسية التي تطرأ على المرأة، وأكَّدت دراسات حديثة أنَّ الأم الصغيرة وطفلها يواجهان خطراً أكبر نتيجة المضاعفات خلال فترتي الحمل والولادة من الفتيات اللاتي تزوجنَ بعد سنِّ العشرين، حيث يصبحنَ أقدر على تجاوز تلك المخاطر، ولاتنتهي المعاناة هنا بل تزداد في مرحلة التربية، حيث تتطلب جهداً مضاعفاً وخبرةً كبيرةً ووعياً كافياً للتعامل مع المولود الجديد.
في مشهد متكرر طفلةٌ تحمل طفلة أنهكتها الأمومة المبكرة، كانت مضطربة في حديثها عندما أخبرتني أنَّها لاتعرف كيف تتعامل مع هذه الطفلة الصغيرة، تقول السيدة بشرى وهي فتاة تهجرت مع زوجها منذ فترة: “وجدت نفسي وحيدةً غريبةً، وعانيت الكثير حتى اعتدتُ على هذا الوضع، فأنا أمٌّ لطفلتين صغيرين، كانت والدتي تحمل عني حملاً كبيراً في تربيتهنَّ، وتساعدني في تفاصيل صغيرة لم أحسب أنَّها سترهقني في غربتي هكذا”.
تزوجت بشرى في الرابعة عشر من عمرها، وأنجبت ابنتيها وهي الآن في السابعة عشر، تقول: “كأنّي كبرت عشر سنوات، في هذه السنوات الثلاثة كنت طفلة ألعب في الحي مع صديقاتي، وفجأة أصبحت زوجة، ومن ثمَّ أمّاً وأنا لا أدري كيف أتعامل مع طفلتي وَلا زوجي، عانيت مشقة كبيرة حتى تأقلمت مع وضعي كامراة ولستُ طفلة.”
(بشرى. أحمد) كما أحبَّت أن أناديها، لم ترغب بكلمة السيدة التي تلبسها ثوباً فضفاضاً عليها، تمثلُ شريحةً كبيرةً من الفتيات اللواتي في عمرها وقد أصبحنَ أمهات قبل أوانهنَّ تقول: “لوعاد الزمان إلى الوراء ما تزوجت صغيرةً، ولن أسمح لابنتيَّ أن تمران بما مررت به.”
ولم تكن (نور) أوفر حظاً من بشرى، بل ربَّما أسوء حالاً، فقد تزوجت وسافرت مع زوجها مباشرة، وأنجبت مولودها الأول في الغربة تقول: “كانت ليلة كلُّ مافيها غريب ومرهق، كنت أنادي أمي في كل لحظة، كان بُعدها عني أشدَّ وجعاً من ألم المخاض، حتى بعد ما أنجبت طفلي كنت أخاف عليه من نفسي، فأنا لا أعرف كيف أحمله، ولا حتى أبسط الأشياء عنه، وكنت دائماً أقول: لو أنَّ أمي بجانبي كان كلُّ شيء مختلف.”
الأمومة ليست حملاً وولادةً فحسب، بل مسؤولية كبيرة تتطلب أن تكون الأم ناضجةً نفسياً وفكرياً وجسدياً لتقدر على حمل هذه الرسالة السامية، وهي تنشئة أبنائها وتربيتهم تربية سليمة متكاملة ناتجة عن وعي كاملٍ لهذه المرحلة.