فاطمة حاج موسى|
تترك بناتها وزوجها وتخرج للعمل منذ السادسة صباحًا حتى الخامسة عصرًا، ساعات عمل طويلة وأجر قليل، لكنه يبقى أفضل من سؤال الناس أعطوها أو منعوها.
إنها “أم حنان” التي تعيش مع بناتها الستة وابنة زوجها المريضة بمرض نفسي في مدينة أريحا بمحافظة إدلب، زوجها رجل سبعيني متقاعد كان مسؤول صيانة بمنطقة عسكرية في التل بالعاصمة دمشق، بالإضافة إلى أنه سائق لسيارات الضباط أثناء جولاتهم وعملهم، ونتيجة القيادة والعمل المتواصل أصيب بالديسك، وحاليًّا يشق عليه حتى النزول إلى السوق لشراء بعض احتياجات المنزل، وبعد التقاعد عاد إلى أريحا ليكون قريبًا من باقي عائلته.
أصيبت “أم حنان” بسرطان الثدي منذ سنتين، وبعد اكتشاف المرض وخضوعها لعملية استئصال جراحية في مشفى بأريحا كانت بحاجة إلى جلسات كيماوية، وأقرب مكان كان مشفى حماة الوطني، وهناك بدأ صراع الموت والعلاج، فبعد عدة جلسات ظهرت آثار المواد السامة التي تتجرعها على جسدها من تساقط شعرها وفقدان نشاطها وابتسامتها وروحها المرحة ظنًّا منها أن النهاية قد اقتربت وأكثر ما يؤرق أيامها مع المواجع مستقبل بناتها المجهول بعد موتها.
مع جلسات العلاج وباقي المصاريف نفذت جميع المدخرات عدا مساعدات البعض لها رغم كل ذلك بات الحال صعبًا، توقفت عن العلاج خصوصًا بعد طلبات الطبيب لمجموعة صور وتحاليل تكلفها فوق طاقتها، وبالنهاية اكتفت ببعض الحبوب لتقوية جسدها الهزيل بموجب وصفة الطبيب.
رغم تأثيرات العلاج والعملية الجراحية على حركة يدها اليسرى إلا أنها بدأت العمل بالمنزل بحياكة قبعات قطنية وحريرية، ثم حياكة الملابس الصوفية بطلب من بعض المحال التجارية في السوق لأن عملها مميز وصاحبة ذوق رفيع باختيار تصاميم مميزة لكل قطعة تحيكها وبأجر زهيد لا يكفي لشراء الخبز لعائلاتها لكنها استمرت بعملها، ومع ابتداء المواسم الزراعية كانت تعمل بقطف الزيتون والمحلب وغيره من الأعمال الزراعية بالقرى القريبة لتساهم بتحسين وضعها المعيشي لو قليلاً.
كانت سابقًا تحصل على مساعدة إنسانية تغنيها عن شراء بعض المستلزمات لكنها الآن قطعت عنها وأصبحت توزع على زوجات الشهداء ومصابي الحرب والعجز، ورغم وضعها الصعب لم تعد بقائمة المستفيدين.
بنات ” أم حنان ” الثلاثة الكبار تركنَ المدرسة بعد تعرضهنَّ للقصف منذ سنوات واستشهاد بعض التلاميذ حتى صار الخوف من المدرسة أكبر من الحلم بالتعلم، والبنات الصغيرات الآن بالمرحلة الابتدائية بالمدرسة، أما ابنة زوجها لا تصلح لشيء منعزلة تمامًا عن الحياة، بل إنها تحتاج من يهتم بها ويرعاها هي وأخواتها وتلبية متطلباتهنَّ حتى لا يشعرنَ بالنقص أمام خليلاتهنَّ.
تعمل حاليًّا أم حنان بمعمل قريب من مدينة أريحا لتعقيم التين اليابس وضغطه وتموينه ليصدر أو يباع في الأسواق التجارية.
تصطحب أحيانا بناتها معها للمعمل ذات 14 عامًا مع أختها التي تصغرها بعام واحد بعد أن زوجت ابنتها الكبيرة ذات 18سنة، تعود من المعمل لتبدأ بأعمال المنزل من تنظيف وطهو طعام واهتمام بالعائلة والاستماع إلى مشاكلهم، ومع كل هذا التعب والمجهود الشاق والسعي الدائم لتأمين عيش كريم لعائلتها فإنها تحصل ما يكفي لأبسط الاحتياجات، ولا يمكن أن تطلب أجرًا أكثر أو ساعات عمل أقل خوفًا من إبعادها عن العمل. فكم من النساء السوريات يعطينَ كأم حنان وقد تجرعن مرارة الحياة وعلقمها ومازلنَ يُعطين ما عندهنَّ حتى يمَل العطاء من صبرهنَّ!