جاد الحق |
” ملاحدةُ الأكراد “، ” الأكراد عملاء إسرائيل وأميركا “، ” الأكراد عنصريّون انفصاليّون ” عباراتٌ نمطيّة موجهة تلخّص مئة عام من الشيطنة والإبادة والاضطهاد والتشويه تعرض له الأكراد، لا لشيءٍ إنما فقط لكونهم أكراد!!!
لكن دعونا نجولُ في تاريخنا قليلاً حتى نفهمَ السياق التاريخي للأحداث التي جعلت هذه العباراتِ الكاذبة، حقيقةً راسخة في ذهن البعض.
كانت الخلافة الإسلامية العثمانية كهفاً يأوي إليه المسلمون، وملاذاً يجمع شملهم، فعملتِ الدول الاستخرابية – لأن لفظ الاستعمار يحمل معنى إيجابي لا يتفق مع ما فعله الاحتلال الأوروبي للدول المستضعفة – على تدمير هذا العمود المتين، الذي يقي البيت الإسلامي من السقوط.
ولأن البيت محصنٌ جيداً من الخارج، فلا يُهدَم عموده إلا من الداخل وبيدِ أبنائه، لذلك شجعتِ الدول الاستخرابية عملاءها من القوميين ليشعلوا ثوراتِ التخريب القومية حتى تهدم معاولها البيت الإسلامي المشيد.
وفعلاً أنهكتِ الثوراتُ القومية، الخلافة العثمانية الإسلامية، في أواخر عمرها، لتأتيها الطعنة النجلاء، من يد عملاء الغرب من حثالات العرب والأتراك، لتسقط أخيراً الخلافة العثمانية الإسلامية الجامعة، وتقوم على أنقاضها الدول القومية.
طوال فتراتِ الخلافة الإسلامية كان الأكرادُ كغيرهم من الشعوب المسلمة، ركناً أساسياً في الدفاع عن منظومة الخلافة، وخرّجوا عظماءً للأمة كصلاح الدين الأيوبي، وابن تيمية، وسليمان الحلبي.
وحين أفلت شمس الخلافة، وعسعس ليل الدول القومية، ابتدأ عصر الاضطهاد والإجرام بحق الأكراد، خاصة بعد اتفاقية لوزان عام 1923، التي تعهّد فيها أتاتورك، بإلغاء الخلافة، وعلمنة الدولة، وكانتِ النقطة الفاصلة لبدء مجازرَ حقيقية ضد الأكراد، وترافقت تلك المجازر بعملياتِ تقسيم التركة العثمانية، حيث تشكلت على جثتها، دولة العراق، ودولة تركيا، ودولة سوريا بالحدود التي نعرفها اليوم.
قام الأكراد بثورةٍ إسلامية في العشرينيات بقيادة الشيخ سعيد بيران، وأجهضها جلاوزة العلمانية التركية، في سياق حربهم الضروس على الإسلام في تركيا، وهُجّر آلاف الأكراد إلى سوريا.
وفي بداية الثلاثينيات كان الأكرادُ موزعين بين أربع دول قومية هي، إيران، العراق، سوريا، وتركيا، وكان وضعهم تحديداً في إيران وتركيا سيئاً للغاية، خاصةً في إيرانَ التي تَعتبر الأكراد دخلاءً بالمذهب والقومية، فهم سنةٌ وهي شيعية، وهم أكراد، والسلطة فيها فارسية متعصبة.
في تركيا عام 1931 أصدر أتاتورك قراراً ينصّ على أنّ أي جريمةٍ تُرتكب من السلطة وشبيحتها بحق الأكراد لا تعتبر جريمة، في شرعنة وقحة للإبادة ضد الشعب الكردي المسلم.
في سوريا والعراق، كان وضع الأكراد أفضل، لكن وصول حزب البعث الباطني المجرم في الدولتين لسدة الحكم، بعد انقلابات دموية فيهما، أنذر ببداية عصر الاضطهاد الممنهج في الدولتين ضد الأكراد.
وهنا نود الإشارة إلى أنّ الاضطهاد الممنهج ضدّ الشعب الكردي لم يكن عفوياّ، بل كان مخططاّ ومدروساّ، ومدعوماّ من قبل الدول الغربية المجرمة، وذلك لتحقيق عدة أمور، منها على سبيل المثال لا الحصر:
1) الانتقام مما قدمه الأكراد للإسلام في مواجهة الصليبيين أيام الحروب الصليبية، التي لا تزال روحها الإجرامية متعشّقة في قلوب الأوروبيين برغم رفع شعارات الديمقراطية والليبرالية.
2) إلهاء الأمة عن مشاكلها الأساسية عبر إثارة النعرات القومية الجاهلية، والتي تستنفذ طاقاتها عن مواجهة أعدائها الحقيقيين، وتصرفها في مواجهة مكوناتها.
3) دعم المكونين المتقاتلين بغية تعميق الهوة بينهما، للاستفادة الاقتصادية والسياسية والعسكرية من الاقتتال البيني الحاصل، فالاحتراب الداخلي يعني مزيداً من عقود صفقات بيع السلاح، واستثمار الثروات، وإنشاء التحالفات المشبوهة، وإقامة القواعد العسكرية الاحتلالية.
لذلك كان الدور الغربي يقتصر على تشجيع الأكراد على الثورة للمطالبة بحقوقهم، ووعدهم بتقديم الدعم والإمكانات اللازمة، ومع تصديق الأكراد للوعود الغربية، وقيامهم بالثورة، تبدأ الدول الغربية بابتزاز الأنظمة الوظيفية بورقة الأكراد، ثم تبيعهم للدول القمعية بمجرد تحقيق مآربها.
وبعد أن وصل الأكراد إلى حد الضجر والنفور من ظلم ذوي القربى، ووصل لحكم تركيا حزبٌ يريد العودة بها لبرّ الأمان ويحتضن قضايا الأمة، ويحاول أن يصلح كوارث من سبقه، وحصول ثورات الربيع العربي التي هدفها الأول الحرية والكرامة لكل المكونات الشعبية، دُقّ ناقوس الخطر عند دول الغرب، وقرروا خوض الجولة الأخيرة، ورمي آخر ورقة رابحة لديهم، بغية إفساد مشروع تحرر المنطقة، وهي اللعب على عواطف الأكراد لتحقيق حلم الاستقلال.
نعم للأكراد مظلومية تاريخية
نعم للأكراد حقوق يجب أن تعاد
نعم علينا الاعتراف بلغتهم وقوميتهم وأسمائهم وثقافتهم وأن يحصلوا على حقوقهم كاملة كغيرهم من المكونات.
لكن أليس من حقنا أن نسأل لماذا تم اليوم إعلان الاستفتاء عن الاستقلال في وقت حقق فيه إقليم كردستان تنمية كبيرة، وحصل على علاقات متميزة مع تركيا الجديدة، وبلغت فيه إيران أوج مجدها بعد سيطرة عصاباتها الطائفية على الجزء السني من العراق، ونجحت بتهجير أهله؟؟؟
الاستفتاء المفاجئ أجبر تركيا، التي أصبحت العمق الاستراتيجي لسنة المنطقة، بعد سقوط حواضر العراق السنية بيد الحشد الشيعي، وبعد إعادة تمدد النظام السوري الطائفي، أجبرها على أن تصبح خصماً لإقليم كردستان، الذي أصبح الخزان الأخير للسنة في العراق، والذي بسقوطه لا سمح الله، تصبح تركيا معزولة بعصابات شيعية طائفية، عن عمقها التاريخي والجيوسياسي السني.
لسنا ضد إخوتنا الأكراد في نيل حقوقهم، لكننا ضد من يستغل مظلوميتهم ليمزق الممزق، ويقزّم المقزّم، ويقسّم المقسّم، ويقامر بمستقبلهم وما حققوه من نجاح في إقليم كردستان.
إعلان استقلال كردستان اليوم سيدفع تركيا للتنسيق مع إيران وحكومتي بغداد والأسد التابعين لها على حساب السنة في كردستان والمناطق السورية المحررة من نظام الأسد، مما سيعرقل خطة العدالة والتنمية للوصول لعام 2023 بأمان، ويهدد بسقوط ما تبقى من أراض للسنة في العراق وسوريا، بيد الميليشيات الشيعية الطائفية، واستكمال مشروع التطويق والعزل لتركيا الجديدة عن عمقها الاستراتيجي.
الصور المستفزة المدروسة، لبعض المحسوبين على القضية الكردية وهم يحملون علم إسرائيل، والتعليقات الحميمية المقصودة من المسؤولين الإسرائيليين الداعمة لاستقلال كردستان، هي مكائدُ دعائية لإزكاء نار العداوة بين الشعب الواحد، ولشيطنة الأكراد، مما سيدفع أبناء القوميات السنية الأخرى كالأتراك والتركمان والعرب، للتحالف مع الحشد الشيعي المجرم، ضد إخوانهم السنة الأكراد، بعد أن يُخرِسَ صخب الدعوات القومية الجاهلية، صوتَي العقل والدين في النفوس المشحونة للفريقين، فيصبح السنة يقتلون السنة، خدمةً للمشاريع المعادية.
والمستفيد هم ذلك هم:
- إيران التي بمعاونة دعاة القومية من الطرفين، ستقضي على آخر معاقل السنة في العراق، وتستكمل مشروع الهلال الشيعي.
- أميركا وإسرائيل، اللتان تريدان تفتيت دول المنطقة، خاصة تركيا بعد أن تحولت لكابوس جاثم على صدر الطموحات التوسعية الغربية، بعد احتضانها لحركات الشعوب المسلمة، وعودتها نحو عمقها التاريخي، ونهضتها على كافة المستويات.
- شركات السلاح واستثمار الثروات الباطنية، شريكة الحكومات الإجرامية لدول الغرب، والتي ستوقع مئات عقود بيع السلاح، وشراء النفط، بسعر بخس.
- حزب pkk الإرهابي، وهو نظير حزب البعث العربي الاشتراكي عند الأكراد، والذي سيركب موجة إعلان الاستقلال والحرب التي ستليه، من أجل أن يظهر على أنه البطل المدافع عن حق الشعب الكردي، ويروج لأجنداته المشبوهة، ويستكمل عملية سلخ الأكراد عن دينهم وهويتهم وتاريخهم.
أما من الخاسر في موضوع إعلان الاستقلال، فهو كل شعوب المنطقة، وعلى رأسهم الأكراد، الذين سيصيرون كبش فداء يذبح قربانا لأعداء الأمة.
بعد هذا الكلام نفهم سبب ترويج دعاية الشيطنة للأكراد، والتحشيد ضدهم، ونعرف سبب تعاطف الشيطان الإسرائيلي مع القضية الكردية.
سؤال لكل الشعوب، ماذا قدمه دعاة القومية لنا، من أتاتورك، لعبد الناصر، انتهاءً بحافظ الأسد وابنه؟؟؟
أيُّ تقدم حصلنا عليه، أي عودة لأمجاد ماضية حققناها، أي سلم حضاري ارتقينا ذروته؟؟
لم نحصل منهم سوى على الإجرام والإرهاب والقتل والتشريد، ومعتقلات يشيب لها الولدان، وبلادنا ممزقة، وشعوبا مكلومة، وأجيال مغيبة تهيم كالعمياء في ظلمات القومية.
لذلك أقول أنا عربي ولي الفخر، والأكراد إخواني ولي الشرف، وتركيا عمقي الاستراتيجي الذي أصونه وأفديه وآوي إليه.
2 تعليقات
فادي
جيد جدا >>>
samii
استمر بكتاباتك