مضت بضعة أيام على مرور اليوم العالمي للعمل الإنساني الواقع في التاسع عشر من شهر أغسطس الجاري لعام 2017م، الذي اتخذ شعاراً مميزاً له بعنوان: “المدنيون ليسوا هدفاً”، ويأتي هذا بعد عدة سنوات عجاف عصفت بالعديد من الدول العربية والإقليمية والعالمية كاليمن وسورية وليبيا والعراق والشيشان وأفغانستان والصومال والسودان وبورما وغيرها من الدول التي توحي الحرب بها أنها بلا نهاية.
شملت هذه الحملة حملة “أنا لست هدفاً” جميع المنظمات والجمعيات العاملة في تلك الدول، حيث أخذت على عاتقها تكثيف جهودها في إظهار المدنيين في مختلف القطاعات الإنسانية في بلاد الحروب إعلامياً، وهم يعلنون على الملأ وأمام العالم أنَّهم ليسوا هدفاً لمختلف آلة الحرب المحرمة دولياً التي مورست على من قبلهم من آلاف الضحايا المدنيين الذين كانوا هدفاً استراتيجياً غير معلن في كواليس الحرب القذرة.
وبما أنني في بلد طحنت فيها الحرب الحجر والبشر، ورأيت جميع المنظمات وطبيعة عملها، فإنَّ هذه الحملة في اليوم العالمي للعمل الإنساني التي تحمل شعار الحب والسلام من جهة، تثبتُ من جهة ثانية بشكل غير مباشر مقصود أو غير مقصود أنَّ الضحايا المدنيين الذين قتلهم طيران التحالف الدولي لم يكونوا هدفاً قط من ضمن مخططاتهم، فهو شعار يعمل على تبرئتهم من دماء تلك الضحايا المدنية، كما تقدم تبريراً صارخاً أمام مجلس الأمن الدولي والأمم المتحدة بأنَّ ضحايا الحروب والضربات الجوية المستقبلية من المدنيين ليست هدفاً مباشراً لأصحاب اليد الطولى من الدول البراغماتية والاستخرابية أيضاً، ولن يكون لهم أدنى صلة بجرائمهم في المستقبل القريب أو البعيد.
واللافت للانتباه أنَّ هؤلاء المدنيين ومن ضمنهم المثقفون ينساقون طوعاً ضمن مخططاتهم العدوانية بشكل إنساني دون أدنى وعي لما يحاك لهم، على الرغم من أنَّهم يشكلون خيطاً من جملة خيوط اللعبة الاستراتيجية لمؤامراتهم الماحقة لخيارات الشعوب وحقها في تقرير مصيرها.
والمتفحص بعين السياسية بكل أبعادها لهذه الأعمال الإنسانية يرى أنَّها أعمال غير مدروسة تصب بشكل أو بآخر ضمن الأهداف السياسية والعسكرية الاستراتيجية للدول الاستخرابية التي ربَّما يعود أصول دعم هذه المنظمات وتشكيل منبعها إليها بطرق ملتوية ولأهداف تظهر ثمارها في هذه الحروب فقط.
والذي رضي من المدنيين بأن يكون أداة طيعة من أدوات هذه الحملة أقول لهم: أثناء الحصار الشنيع لمدينة حلب، ألم تكن المستشفيات الإنسانية والنقاط الطبية أول هدف محقق للطيران الروسي والسوري المدعوم دولياً؟ ألم تكن صروح التعليم في المناطق المحررة ومختلف معاهد التعليم الخاصة والعامة هدفاً مباشراً للقضاء على صيرورة بناء الإنسان المدني وعلى مرأى جميع المنظمات الحاضنة والداعمة لأغلب المؤسسات التعليمية؟ ناهيك عن المساجد ودور العبادة في عموم مناطق المستهدفين لدول الاستخراب العالمية واللاديمقراطية التي سوّتها بالأرض إشعاراً منهم بقتل الحب والسلام في العالم.
كذلك في مدينة الرقة المحاصرة بشكل خاص وعموم مناطق الاستهداف في سورية، تشير الإحصائيات الأخيرة لعام 2017م إلى نحو ألف طفل ومواطنة من ضمن مجموع الضحايا المدنيين خلال 35 شهراً متتالية من بدء قصف التحالف الدولي، حيث تستمر أعداد الخسائر البشرية في الارتفاع، على الرغم من الادعاءات المتتالية للتحالف الدولي بتنفيذ ضربات “دقيقة” على “أهداف” كان جلُّ ضحاياها من المدنيين، الذين لم يتمكنوا من مغادرة مناطق سيطرة تنظيم “الدولة الإسلامية وآثروا البقاء في منازلهم وقراهم وحيث يسكنون.
المرصد السوري لحقوق الإنسان وثق خلال الشهر الـ 35 الممتد من الـ 23 من تموز / يوليو وحتى اليوم الـ 23 من آب / أغسطس الجاري من العام 2017، استشهاد ومقتل 568 شخصاً هم 371 مدني بينهم 110 أطفال و62 مواطنة، و197 على الأقل من عناصر تنظيم “الدولة الإسلامية” ليرتفع بذلك عدد من وثقهم المرصد السوري لحقوق الإنسان منذ الـ 23 من أيلول / سبتمبر من العام الفائت 2014، وحتى اليوم الـ 23 من آب / أغسطس من العام 2017 الجاري، إلى 9842 شخصاً استشهدوا وقتلوا جراء غارات التحالف الدولي وضرباته الصاروخية، وأسفرت هذه الضربات المكثفة عن إصابة المئات بجراح متفاوتة الخطورة، وبعضهم تعرض لإعاقات دائمة وبتر أطراف، مع تدمير مبانٍ وممتلكات لمواطنين ومرافق عامة.
لذلك فلا بدَّ من التفكير ملياً في عمل أي مشروع إنساني يتوجه إلى مدنيي البلاد المنكوبة من قبل تلك المنظمات ومن ورائها داعميها بشكل يستوفي أبعاد حفظ كرامة الإنسان بعيداً عن ضمور أي أهدافٍ تخدم مسببي هذه الكوارث، ولا سيما تلك الأعمال الإنسانية التي تمد أمد الأزمة بدلاً من أن تعمل على خلق فرص جديدة بهذه الأموال الهائلة الموظفة توظيفاً سياسياً واستراتيجياً.