عبد العزيز عباسي |
هل الحقيقة أغرب من الخيال أم العكس صحيح؟ وهل مهمة النص الأدبي تصوير الواقع بكل حذافيره أم مهمته تجميله ونقده وتغييره؟! ما هي مهمة الأدب في الحياة؟ وما هو مدى تأثيره في الواقع وتأثره به؟ ما هي الخطوط الفاصلة بين ما حصل في الواقع وبين ما حصل لكن في خيال الكاتب فقط؟
صعلوك طنجة أو ما يُعرف بالروائي المغربي (محمد شكري) يفتح النار على الفقر والريف والجهل، والريف هنا ليس الريف المعروف، فأهل الريف المغربي يتحدثون البربرية وليس العربية وهذا لوحده مشكلة كبيرة، فأن تفهم اللغة الإسبانية والفرنسية وتدخل إلى طنجة أو تطوان أو وهران هذا يعني سوف يعاملك الناس كالشخص الغريب في بلدك وموطنك.
رواية (الخبز الحافي) رواية مشهورة جداً، تُرجمت إلى ثمان وثلاثين لغة أجنبية، هذا الأمر لا يترك مجالاً للشك أنّ هذه الرواية تستحق كل هذا التقدير والاحترام، ولكن لماذا؟ ماذا قدمت هذه الرواية؟ هل هي سيرة ذاتية أم سيرة للريف المغربي بأكمله في فترة الحماية الفرنسية الدولية والاحتلال الإسباني للمغرب، يقول شكري في الرواية: ” أنا إنسان عاش التشرد وأكل من القمامة، فهل ينتظرون مني أن أكتب لهم عن الفراشات؟!”
الرواية تتحدث عن (محمد بن حدو بن علال) من أسرة فقيرة جداً، أبوه شخص بلا عمل يقضي أيامه في السكر وشرب معجون الحشيش وضرب أولاده وزوجته، أما أمّ محمد فهي ميمونة، أمٌّ مكافحة كان الولد محمد يحبها كثيراً ويكره أباه كثيراً ويتمنى قتله أو أن يرحل بلا رجعة أو أن يموت، طفولة صعبة تلخص ما حدث في المجاعة التي ضربت مناطقاً في الريف المغربي نزح على إثرها الأهالي إلى المدن مثل طنجة وتطوان ووهران لعلهم يجدوا الطعام والشراب في فترة الاحتلال الإسباني للمغرب.
لا يمكن تصنيف الرواية بأنّها سيرة ذاتية رغم أنها تبدو كذلك للوهلة الأولى، هل كان محمد بطل الرواية هو الكاتب محمد شكري أو هو واحد من الناس أو هو نموذج أو مثال أو عينة عشوائية من أهل الريف المغربي الذين هجموا على المدن مثلما هجمنا يوم نزحنا من سورية ولكنّ رحلتنا كانت إلى القرى؟! قسوة الوالد رغم حنان الأم أجبرت محمد على ترك المنزل والعمل في أماكن مختلفة مثل الحانة والمقهى والعمل عند مونيكا الإسبانية وزوجها، واضطره عنف والده إلى النوم في المقبرة والشوارع والحدائق، فعانى من ظلم الناس وظلم الأب وظلم الاحتلال، أين المفر يا رب العالمين؟
(الواقعية القذرة) هكذا وصف الأمريكان رواية الخبز الحافي التي تُرجمت إلى الإنكليزية والفرنسية قبل أن تُقرأ بالعربية، بطل الرواية وأغلب الشخصيات في الرواية هي شخصيات فقيرة بسيطة من الطبقة المعدمة المهمشة، وبطل الرواية هو نفسه الكاتب محمد شكري، لكنّ الفارق بينهما أنّ محمد شكري استطاع النجاة بنفسه من هذا القاع بعد أن نجح في التعلم.
مُنعت الرواية في كثير من الدول العربية وخاصةً مصر؛ لأنّها تحتوي على أمور تخدش الحياء مثل العلاقات الجنسية والشذوذ الجنسي، واهتم بها الغرب أكثر من العرب.
محمد شكري ذو ثقافة بسيطة، وهو كما قال عن نفسه في لقاء تلفزيوني: “أنا قارئ غير جيد للأدب العربي.” عاش طفولة مسروقة من الاحتلالين الفرنسي والإسباني، وعمل مثل بطل الرواية حمّالاً وعاملاً في المقهى وبائع ساعات في المراكب، وهو شخص لا يعرف القراءة ولا الكتابة، لكنّه كما قال أدونيس: “محمد شكري يتحدانا جميعاً لكي نكتب بأجسادنا وليس بمجرد أفكارنا.” الكاتب جعل من نفسه بطلاً للرواية ليس لأنّه يكتب سيرةً ذاتية، بل لأنّه يريد تحمّل مسؤولية تجاه ما كتب، فهو الضحية الأولى لتلك الحقبة السوداء في تاريخ المغرب، لكنّ العلم والثقافة أرشداه وانتشلاه من قاع القاع إلى سماء الإبداع.