تقرير : عمر عرب من رحم الألم والمعاناة خرجوا إلى عالم جديد مختلف عن الذي كانوا يعيشون فيه من قبل، ففي البداية بدأ الوضع ببلبلة في المنطقة، واختلاف في الآراء والنظرات، ثمَّ تطور رويداً رويداً ليعم جميع المناطق ويتحول إلى حرب قاسية باسم محاربة الإرهاب، الجميع توقع أنَّها ستكون حربًا قصيرة المدى وسينتهي بعدها كل شيء، لكن سرعان ما تغيرت كلُّ التوقعات والمجريات على الأرض، لتتمخض مرحلة عصيبة على الناس عنوانها البراميل المتفجرة والصواريخ الحربية، جعلتهم يعيشون في حالة ذعر وخوف وقلق، فنزحوا من بيوتهم إلى أماكن أخرى علَّها تكون أكثر أمنًا، فالبعض ذهب إلى المخيمات، والآخر هاجر وترك البلاد، لتمرت السنون والحرب لم تنتهِ والقصف لم يهدأ، بل كان بازدياد فتعددت أنواعه، ليصبح الشعب السوري حقل تجارب للأسلحة الروسية والإيرانية، وغيرها …والناس طيلة هذه الفترة في ترقب حذرٍ لا يدرون ما سوف يحلُّ بهم، فالأغلبية منهم تعطَّلت مصالحهم وتوقفت، إما بسبب القصف أو النزوح، ما جعلهم في حالة تململ وضيقة، فلم يعد أمامهم إلا محاولة التعايش مع الواقع المفروض بكل تطوراته المتوقعة، وتناسي ما هم فيه ليعيشوا ويستمروا في هذه الحياة، فثمَّة مناطق تتعرض بشكل متكرر إلى القصف ومع ذلك ترى السكَّان يقطنون فيها، فليس لهم مكان آخر يذهبون إليه.مدينة حلب المعروفة باقتصادها المتنامي وحركتها التي لا تهدأ حولتها آلة النظام إلى مدينة منكوبة خاصة المناطق المحررة فيها، وحرمت الناس من الأمان ووسائل العيش الآمن ولم تترك لهم أي سبيل للعيش بسلام، فباتت تقصف المشافي والأماكن العامة والمدارس وكل شيء لايزال ينبض بالحياة، حتى أنَّ معبر كراج الحجز الوحيد الذي كان يربط المناطق المحررة بمناطق النظام توقف عن العمل، وحُرم الناس من العبور فيه وقضاء حاجاتهم، وذلك بسبب القنص المستمر من قبل النظام للمدنيين.كل هذه الأمور لم تثنِ الناس عن مواصلة العيش، بل أصبحوا يجدون بديلاً لكل شيء حاول النظام محوه من حياتهم، فعادوا إلى أعمالهم وصناعاتهم من جديد، فانتشر في المناطق المحررة المشافي الميدانية والنقاط الأمنية، وفتحت المدارس من جديد لكيلا يحرم الأطفال من إتمام تعليمهم، و عادت الأسواق والمحلات تعج بالحياة من جديد فاتحة أبوابها أمام الناس، كما تشكلت جمعيات ومنظمات خيرية تُعنى بشأن المواطن من الطفل وحتى المسن، فأوجدت لهم معظم احتياجاتهم، لتكون معينا لعم من بعد الله على البقاء، ففي فترة من الفترات استطاعت المناطق المحررة أن تنهض بنفسها نهضة اقتصادية جيدة مقارنة مع ما يمتلكه النظام من مقومات تفوق ما تمتلكه المناطق المحررة بأضعاف.لكن النظام في كلِّ مرة يجدد قصفه لهذه المناطق، وخاصة المأهولة بالسكان، ليضعف ويثني عزيمة الناس ويجعلهم يرضخون له ويحطم ذلك النهوض سواء الاقتصادي عبر قصفه للأسواق أو الفكري من خلال قصفه للمدارس، إلا أنَّ الناس أصروا على البقاء والصمود رغم كل الذي يحصل، وقرروا البقاء في مدينتهم والتأقلم مع الوضع الذي يعيشونه، لأنَّهم يؤمنون أنَّ بعد العسر يسر، وأنَّ طريقهم هو الطريق الحق، صحيح أنَّ البعض قد ترك المدينة وذهب إلى الريف أو غيره، إلا أنَّ أغلب السكان قد سلموا أمرهم لله، فتراهم بعد قصف النظام لمنطقة معينة يهبون لإنقاذ الناس مع فِرق الدفاع المدني، وهم يعلمون أنَّ هذا الأمر يعرِّض حياتهم للخطر، ثمَّ يقومون بإزالة ما يمكن إزالته من الأحجار والركام، ليعودوا في اليوم التالي إلى أعمالهم وأشغالهم، ليثبتوا للجميع على أنَّ الحال الذي يعيشونه صباح مساء والذي فرض نفسه عليهم، قادرون على التكيف مع كل مرحلة يمرُّون بها، والتأقلم مع ذاتهم، وتحدي الموت بالموت، فحلب الآن بحاجة إليهم، كما هم بحاجة إليها.